تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لاشك أن مثل هذه المباحث فتحت مجالا جديدا واسعا في آفاق اللسانيات، وأسهمت في مد جسرٍ يصل بين البحث اللغوي المحض، والمنطق، فضلا عن كونها برهنت على أن عملية التخاطب لا تقتصر على المعطيات اللغوية؛ بل تتناول أيضا عناصر منطقية، وأخرى تخاطبية، وهو ما أعطى لهذا الحقل بعدا إبستمولوجيا جديدا يبدو فيه التشديد على تداخل المعارف، والعلوم المختلفة، والعلاقة التكاملية بينها. وقد سبق لعلماء أصول الفقه الإسلامي أن أدركوا هذه الحقيقة، وجعلوا منها مزيّة رجحت كفّتهم على كفة النحاة الذين قصروا اهتماماتهم على دراسة البنى اللغوية، وأهملوا الجوانب التخاطبية، والعمليات الاستنتاجية الملازمة لعملية الخطاب. ويبدو شعور تفوّق الأصوليين واضحا عند محمد بخيت المطيعي في قوله إن علماء الأصول "نحاة، وزيادة"، [7] كما صرح عبد العلي الأنصاري قبله بتفوّق علماء أصول الفقه على أهل العربية. [8]

تفترض البراغماتية pragmatics [9] وجود توقعات بين المتخاطبين، وأصول خطابية تحكم سلوكهم، واستنتاجاتهم، ومن الواضح جدا أنها تعنى بالأداء، وليس بالكفاية خلافا للتوليديين. وقد عرف عن البراغماتيين تشكيكهم في فكرة قصر اللسانيات على دراسة الكفاية اللغوية بعيدا عن الاستخدام، والسياق، وفي ما يتطلبه ذلك من قدر عال من التجريد، والأمثلَة. [10]

لقد جاءت البراغماتية بعد مراحل من الدراسات الصورية، أو البنائية formal للمعنى، التي عرف بها التوليديون على وجه الخصوص، ولعل روبين لاكوف Robin Lakof من أوائل التوليديين الذين شككوا في إمكان دراسة المعنى معزولا عن السياق، وتحمل شهادة أحد التوليديين المعروفين بإغراقهم في التجريد على إخفاق النهج الصوري البنائي في دراسة المعنى قيمة خاصة في البرهنة على أهمية السياق، والاستخدام في تقديم تفسير سليم لعملية التخاطب.

ومنذ السبعينيات توالت الانتقادات للدراسات التي تجعل من الجملة وحدة للتحليل اللغوي، وزاد عزوف مختلف الباحثين عن الدراسات التي لا تأخذ في حسبانها العناصر السياقية، والجوانب التخاطبية في دراسة اللغة. فاللسانيون الاجتماعيون بدؤوا يرفضون فكرة المتحدث المثالي عند تشومسكي، وشبيه بهذا ما فعلته اللسانيات النصية، وتحليل الخطاب حين رفضتا قصر الدراسات اللسانية على ما يسمى بنحو الجملة sentence grammar؛[11] متأثرين في ذلك ببعض الوظيفيين من أمثال فيرث، وهاليدي، وميتشال Mitchell الذي بلغت شهرتهم أوجها في الخمسينيات.

ولعل من أهم ما ينبغي أن يذكر في سياق الحديث عن البراغماتية الدور المهم، والمؤثر الذي قام به فلاسفة اللغة في تطوير هذا المجال. ومن الأعلام المهمين هنا -إضافة إلى بول قرايس المشار إليه سابقا -أوستين Austin، وسيرل Searle اللذان قدما للسانيات نظريتهما المعروفة بأفعال الكلام speech acts theory. تقوم هذه النظرية على فكرة أننا عندما نتحدث فإننا نقوم بأفعال، أو أحداث، ويبدو هذا واضحا فيما عرف بالقولات الإنشائية performative utterances التي يمكن أن نمثل لها بما يطلق عليه في كتب الفقه مصطلح "صيغ العقود" نحو "بعتك"، و"زوجتك"، وطلقتكِ"، ومنها أيضا "أعِدك"، و"أرجوك" "وأتمنى أن تفعل ذلك"، ونحوها مما يقترن فيه القول بعمل يصح أن نعده منجزا بمجرد انتهاء المتكلم من كلامه؛ كالطلاق، والبيع، والنكاح، والوعد، والرجاء، والتمني. وقد أضافت هذه النظرية تطورا إبستمولوجيا جديدا في اللسانيات ترتب عليه إعادة النظر في موضوعه من حقل يدرس الأقوال إلى مجال تدرس فيه الأقوال المقرونة بالأفعال، كما ترتب عليه إعادة النظر في طبيعة اللغة، واستخدامها.

لقد أتاحت الطبيعة الموسوعية للبراغماتية الفرصة لتعاون كبير بين المناطقة، والبراغماتيين (وكذلك علماء الدلالة) في سبيل تقديم نموذج متطور لعملية التخاطب يأخذ في حسبانه كل الأبعاد اللغوية، والمنطقية، والتخاطبية، وهو ما أدى إلى بروز أعمال تناقش موضوعات مشتركة [12] مثل أنواع الاستنتاج types of inference، والافتراضات presuppositions، والمفاهيم الخطابية conversational implicatures، والتعيين deixis.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير