تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعن معنى التقدير الآنف الذكر يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ):

"والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلَق الأديمَ إذا هيأه ليقطعه ويخرزه، قال جبير في هرم بن سنان:

ولأَنْتَ تفري ما خَلَقْتَ ******* وبَعْض القوم يَخْلقُ ثم لا يفري

وأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر، (وهو أيضا معنى: البدع لا على مثال سابق)، فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في الحبوب وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزوج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح أهل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى: {أفمن يخلُق كمن لا يخلُق أفلا تذكرون} [النحل: 17] وقال: {هل من خالق غير الله} [فاطر: 3] وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بناء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه". اهـ

فالشيخ، رحمه الله، يشير إلى حقيقة اللفظ اللغوية التي تصرف الشارع، عز وجل، فيها، فجعلها في كثير من المواضع حقيقة شرعية في وصف الرب، جل وعلا، بالإيجاد من العدم، فتقدم على الحقيقة اللغوية وهي التقدير، إذ الحقيقة الشرعية كما تقرر في الأصول مقدمة على الحقيقة اللغوية، حتى عد الشيخ، رحمه الله، إطلاق الحقيقة اللغوية على البشر بمعنى وصفهم بالخلق، عجرفة، وإن أراد القائل بها المعاني التي يصح إطلاق وصف الخلق فيها على العبد من تقدير بمباشرة سبب أو تحويل من صورة إلى أخرى، كما تقدم، فالإطلاق مجمل موهم لا سيما بعد استقرار معنى الخلق في نصوص الشرع واطراد نسبته إلى الرب، جل وعلا، اسما ووصفا، فتكون نسبته إلى العبد ولو بما يلائم حاله موهمة تحتمل معان باطلة، كتلك التي انتحلها القدرية نفاة القدر الذين جعلوا الخلق بمعنى الإيجاد للأفعال إلى العبد على حد الاستقلال، فأطلقوا على العبد ما اختص به الرب، جل وعلا، فأثبتوا بلازم مقالتهم معه، تبارك وتعالى، خالقين بأعداد الفاعلين، فكل فاعل مباشر لسبب الفعل عندهم خالق موجد له من العدم، وذلك من الفساد بمكان، ولعله وجه العجرفة التي احترز منها الشيخ، رحمه الله، بمنع إطلاق لفظ الخلق على العبد سدا للذريعة وإن احتمل في حقه معان صحيحة.

ثم يقول رحمه الله في موضع تال:

"فما حكاه الله في القرآن من قول عيسى عليه السلام: {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً بإذن الله} [آل عمران: 49] وقول الله تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني} [المائدة: 110] فإن ذلك مراعىً فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى. ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن أجل ذلك قال الله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] ". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير