تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالسياق في خلق المسيح عليه السلام قد رد الحقيقة إلى أصلها اللغوي، فهو أصل في معرفة مراد المتكلم، فالمراد بالخلق هنا التقدير لقرينة السياق فيقدر المسيح عليه السلام هيئة الطير دون أن يخلق فيه مادة الحياة بل يباشر صورة السبب وهو النفخ فيخلق الرب، جل وعلا، مادة الحياة في الطير وبذلك رد على ما استدل بهذه الآية على ألوهية عيسى المسيح عليه السلام، فليس له إيجاد الحياة وإنما له تقدير الهيئات.

فالخلق قد استقر معناه في عرف الشارع، عز وجل، على حقيقة الإيجاد من العدم، فصار بذلك حقيقة شرعية في ذلك المعنى الذي اختص به الرب، جل وعلا، بل هو من أخص أوصاف ربوبيته، فالربوبية: خلق للأشياء من العدم وتدبير لها بالسبب الكوني نفاذا أو الشرعي ابتلاء لمن يصح تعلق التكليف بهم، ومع صيرورته حقيقة شرعية إلا أنه لا يمتنع حمله على أصله من الحقيقة اللغوية التي يصح إطلاقها على العبد مقيدة بحاله، على ما تقدم من التقدير والتحويل الذي يقدر عليه، فيرجع إلى الأصل اللغوي، لدلالة القرينة السياقية عليه فهي تصير اللفظ حقيقة إما شرعية أو عرفية أو لغوية في كل سياق بحسبه فلكل سياق من القرائن المحتفة التي تحدد معاني ألفاظه ما ليس لغيره والألفاظ لا تفسر منفردة بمعزل عن الجمل التي وردت فيها، فيرد الأمر في سياق كهذا إلى الأصل اللغوي وإن لم يكن هو العمدة في باب الشرعيات إذ لم ترسل الرسل وتنزل الكتب لبيان اللغة فهي أمر سابق للإرسال والإنزال، فغايتها أن تكون أداة تبليغ الوحي فلا تحتاج اللغة إلى أن يبينها الوحي، إذ هي أداة البيان فكيف تفتقر في نفسها إلى بيان الوحي الذي نزل بها فيلزم من ذلك الدور فبيان الوحي يتوقف على اللغة وبيان اللغة يتوقف على الوحي!، وإنما الشرع هو الذي يحتاج إلى بيان الوحي الذي يتصرف تارة في الحقائق اللغوية المطلقة فيقيدها فتصير شرعية، كالصلاة في قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، فقد قيد معناها اللغوي العام وهو: مطلق الدعاء، بقيد شرعي صيرها حقيقة في دعاء مخصوص هو: الصلاة المعهودة في عرف الشارع، عز وجل، فلا ينصرف الذهن إلا إليها حال إطلاقها مجردة في نصوص الشرع. ويتركها على أصلها اللغوي تارة أخرى لقرينة السياق، فتقدم الحقيقة اللغوية على الشرعية في هذا السياق بعينه، وإن كان ذلك خلاف الأصل في باب الشرعيات، كما في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فهي محمولة على الحقيقة اللغوية لقرينة السياق إذ لا يتصور أن يكون المراد من الصلاة في هذا السياق: الصلاة الشرعية، وإن كانت هي المعهودة في عرف الشرع، فالقرينة قد رجحت الحقيقة اللغوية في هذا الموضع وإن كانت خلاف الأصل المتبادر إلى الذهن كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو أمر احتج به من أنكر وقوع المجاز في النصوص الشرعية إذ رد معنى الحقيقة إلى السياق الذي ترد فيه الكلمة لا إلى الوضع اللغوي الأول، أو ما تواتر في لسان العرب من استعمال لفظ بعينه في الدلالة على حقيقة بعينها معقولة كانت أو محسوسة، فكل لفظ عند منكر المجاز حقيقة في سياقه، وإن تعددت معانيه بتعدد السياقات التي يرد فيها إذ يرد عليه من القرائن المحتفة في كل سياق ما لا يرد عليه في بقيتها، فيرجح في كل سياق منها معنى لا يرجح في بقية السياقات تبعا لقرائن كل سياق، فهي، كما تقدم، أصل في معرفة مراد المتكلم.

يقول ابن أبي العز، رحمه الله، في معرض بيان تصرف الشارع، عز وجل، في الحقائق اللغوية، بإيراد القيود الشرعية عليها:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير