تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[27 - 11 - 2009, 06:43 م]ـ

بحر الرمل

قصة فاطمة الناهض

نتجااااااااااااااااااوز، أكَّدتُ عليها بكل (الألفات) المتجاوره،

الزمن يتغير، نحن نتغير، ننضج، و نتجاوز،لنعيش.

لكنه قال جملة واحدة فقط، وهو ينظر الى امتداد الأفق اللانهائي: لو أن من يقول ذلك، مرّ بما مررت به.

ليس من السهل أن أعرف، في كل اللحظات التي نصل فيها الى ذلك الحائط،تسقط الشمس في بئر الظلام ونفترق على حزن، لكنني أكاد أجزم أن طبيعتنا كمخلوقات معجونة بالشهوات التي لا تحصى،ميّالون لنسيان الأذى كي نستمر،وأن عدوّنا الوقت يمنحنا السبب تلو الآخر كي نتدافع بآلامنا وأحلامنا الكسيرة نحو مجاهل النسيان، نضيّعها هناك ونعود نستأنف ربما الخطايا نفسها ونحصد اللّذائذ وآلامها ..

لم تكن جلسة مصارحة ولا شفافيه مفاجئه ولا حتى مخطط لها. نحن مشينا فقط كما أخذتنا أقدامنا صوب السكينه، وصديقنا الصمت يسير بيننا حنوناً إلى ابعد مدى.

توقف قليلا كأنه يستجلي المكان فوقفت، تابع فمشيت الى جانبه، بمحاذاة الصمت.

لم يكن هناك غير الرمل على مد البصر. يرتفع قليلا فيصبح كثيبا، يرتفع أكثر فيصبح شبه هضبة، أكثر فأكثر ليبدو ربما جبلا،ثم ينبسط كبحر ممتد بلا هواده، أكثر فيغدو مثل واد غير ذي زرع ولا ماء.

رمل ولا شيء آخر.

القمر الهائل يبدو قريبا جدا،كأنه ترس معلق على حائط، ينثر فضته اللامعة على كامل التخوم ويتركنا آمنين في مجهول رحيم.

سنرتاح بعد ذلك الكثيب. أوضح ونحن نقترب من ارتفاع رملي على بعد خمسين خطوة تقريبا، كان يملأني شعور بأنه قال ذلك لأني بدأت ألهث قليلا وأنا انتشل قدماي الحافيتان من الغوص في نعومة الرمل الفائقة بعد كل خطوه، ويتقوس ظهري بعض الشيء كلما ارتفع المسار صوب الكثيب، وكأن الصحراء بدأت تميل!

قطعنا مسافة لا يمكن ان أحسبها بالوحدات القياسيه، لكنا تركنا المخيم منذ ساعة تقريبا،نجوس في رمل رقيق، صامتين اغلب المسافة وراضيين بمجرد الصحبه.

ما أن وقفنا على الكثيب حتى انكشف على نحو مفاجيء بساط ممتد من العشب،يبدأ من الرمل ولا نعرف أين يتوقف.صرخت بطفولة: الله…لماذا لم نخيّم هنا .. يا الله من أين جاء كل هذا العشب والنوّير، أهو مخبأك السري؟

جلسنا، وصديقنا الصمت، وكل ما أمامنا يعوم في الفضّه.

مد بصره صوب أفق بعيد خافت،ويداي تعبثان بالعشب كأنني لا أصدق أنه بين أصابعي، تمشط طراوته .. تتحسس النوّير المغموس بالضوء والندى…تصنع دوائر ونجوم .. خطوطا وحروف .. ونقاطا لا يصل بينها شيء.

ثم، وكأنه يقرأ من كتاب: لا نستطيع ان نتجاوز .. لأن مواضينا لا تموت .. نحن أسرى بلا قضبان، نظن أننا نسينا .. لكنها تنهض في وقتها، لتعلن عن وجودها الهمجي.

ظلت يدي قابضة على البروده المنسابة بين الأصابع، وهو لم يكن ينتظر أي رد،فاستأنف القراءه:

أخرجونا في تلك الليلة العاصفة في باص السجن وقد غطوا رؤوسنا بأكياس القماش. لا أتذكر كم قطعنا كان الدرب طويلا، والصوت الوحيد الذي كنا نسمعه كان لرفّاصات الباص واحتكاك مفاصله الجافه،أحيانا كنا نسمع صوت الهواء تشقه سيارة تمرق كسهم، وأحيانا صوت سعال في آخر الباص يقطع التوجس.

توقفنا. أنزلونا، كشفوا رؤوسنا فوجدنا أنفسنا في رمل مثل هذا،

رفع يده بقبضة رمل ناعم من بين العشب وراح يذروها ببطء بعيدا عن وجهي ثم اخذ نفسا عميقا:

لم نكن نعلم أن هناك شاحنة خلفنا. جلبوا منها أدوات للحفر ألقوها في أكوام أمامنا وقالوا هيّا.

قبض على قلوبنا الذعر، أول ما تبادر الى أذهاننا ونحن نحفر تحت تهديد السلاح والعاصفة الرملية المتأنيه في مشيها تتحسس جذوعنا، أننا سندفن في قبور نحفرها بأيدينا، وهم لم يكثروا الكلام، كانوا يحثوننا على الإسراع ونحن نشتري وقتا إضافيا لأعمارنا بالتباطؤ في الحفر.

استهلكنا كل ما يمكن من وقت نقدر عليه، كم تحتاج لحفر حفرة على مقاسك، وعلى أرض رمليه؟ كنا خمسة عشر وطلبوا أن يحفر كل منا حفرتين.

كانت قلوبنا تصخب بعنف ولربما وصل لغطها الى الحدود ونحن واقفون كل أمام حفرتيه بانتظار الأوامر. بعضنا خارت قواه واصطكت ركبتاه في الانتظار قبل أن يأتي الفرج: كل واحد يحمل جثة من الشاحنة ويضعها في الحفرة ويهيل عليها التراب.

وعرفنا أن الشاحنة المغطاة بالقماش السميك كانت تحمل أكواما من الموتى أيضا!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير