تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نشأ شوقي في القاهرة، وضمن له تفوقه الدراسي مجانية تعليمية في مدرسة الحقوق. وعندما تخرج فيها عام 1887، عيّنه الخديو توفيق في قصره، وأرسله إلى فرنسا في بعثة لدراسة الحقوق والترجمة طالت حتى عام 1893.

وقد حسمت تلك الرحلة الدراسية الأولى منطلقات شوقي الفكرية والإبداعية. وخلالها اشترك مع زملاء البعثة في تكوين (جمعية التقدم المصري)، التي كانت أحد أشكال العمل الوطني ضد الاحتلال الإنكليزي. وربطته حينئذ صداقة حميمة بالزعيم مصطفى كامل، وتفتّح على مشروعات النهضة المصرية.

وطوال إقامته بأوروبا، كان فيها بجسده بينما ظل قلبه معلقًا بالثقافة العربية وبالشعراء العرب الكبار وعلى رأسهم المتنبي. ولذا، ظل تأثره بالثقافة الفرنسية محدودًا، ولم ينبهر بالشعراء الفرنسيين الرمزيين والحداثيين أمثال رامبو وبودلير وفيرلين الصاعدين آنذاك.

وبعد عودة شوقي إلى مصر، تعدّدت رحلاته إلى تركيا والدول الأوروبية، إلا أن رحلة منها كانت، مثل رحلته الدراسية الأولى، حاسمةً في تشكيل مصيره. كانت تلك الرحلة عام 1915 إلى برشلونة الإسبانية، التي اختارها الشاعر منفًى له، عندما أُمر بمغادرة مصر بعد خلع الإنكليز للخديو عباس حلمي. وتأمل شوقي مشاهد الحضارة العربية في الأندلس، واكتشف أن الارتباط بالعروبة أبقى وأجدر منه بدولة الخلافة العثمانية. كما تعززت نزعته الوطنية الغلابة في عشق مصر والتغني بأمجادها، وشهدت سنواته التالية ذروة تألقه الإبداعي في التعبير عن الضمير القومي، وشحذه لإمكاناته الإبداعية، وتوجيه طاقاته الخلاقة لتجديد روح الشعر العربي وتمكين صياغته. وفي عام 1927، تألفت لجنة عربية لتكريمه، وخلعت عليه لقب (أمير الشعراء).

ويصف طه حسين التحول الذي قلب إستراتيجية شوقي الشعرية بعد المنفى الإسباني قائلاً: (إنه قد تحوّل تحولاً خطيرًا حقّا لا نكاد نعرف له نظيرًا عند غيره من الشعراء الذين سبقوه في أدبنا العربي ( ... ). إن شعره التقليدي قد تحرر من التقيد بظروف السياسة ( ... ). واستكشف نفسه، وإذا هو شاعر قد خلق ليكون مجدّدًا). كما يرى طه حسين أن (شوقي)، في كثير من قصائده الأخيرة، قد أخذ يحقق النموذج الجمالي والفكري للإنسان المصري والعربي.

ومن موقع النقد الأسلوبي المعاصر، يرى الدكتور محمد الهادي الطرابلسي أن أسلوب شوقي كان (يتغذى من رصيد ثقافي واسع، فخرج يمثل عصارة مصفّاة من التراث العربي الغني، ومن المعارف الإنسانية، إلى جانب تصويره تجربة طويلة للحياة. ولقد تميز أسلوب شوقي بالتوازن بين طاقتين: الإخبارية والإيحائية، فحقق بذلك رسالة مزدوجة: فكرية وفنية معًا).

لقد اعتمد شوقي على توظيف عدد من التقنيات الشعرية الفعالة لتوليد الدلالات الكلية، من أهمها تجانس التراكيب والاشتقاقات، ومفارقات الصياغة، وآليات التكرار وطرائق التصوير والتجسيد، مع قدرة فائقة على إشباع الحس الجمالي للقارئ العربي والاستجابة لتوقعاته.

وفي أخريات سنواته، عكف شوقي على استئناف مشروعه الإبداعي الرائد في كتابة عدد من المسرحيات الشعرية الرفيعة، التي أسست لهذا الفن في اللغة العربية، حتى وافته المنية عام 1932.

ضم ديوانه (الشوقيات) 11320 بيتًا، وبلغت (أرجوزة دول العرب) و (عظماء الإسلام) 1365 بيتًا، كما وصل شعره المسرحي إلى 6179 بيتًا. هذا بالإضافة إلى الشوقيات المجهولة التي نشرها الدكتور صبري السربوني، والتي وصل عددها إلى ما يقرب من 4700 بيت، بما يشهد بخصوبة شوقي وثراء منجزه الإبداعي في الشعر، وبجدارته ليكون شاعر العروبة والإسلام في العصر الحديث.

يا نائح (الطلْحِ) , أَشباهٌ عَوَادِينا

نَشْجى لِوَادِيكَ, أَم نَأْسَى لوادينا?

ماذا تقُصُّ علينا غيرَ أَنّ يدًا

قصَّتْ جناحك جالت في حواشينا?

رمى بنا البينُ أَيْكًا غيرَ سامِرنا

- أَخا الغريب - وظِلاًّ غيرَ نادينا

كلٌّ رَمَتْه النَّوى: رِيشَ الفِراق لنا

سَهْمًا, وسُلّ عليكَ البينُ سِكِّينا

إِذا دعا الشوقُ لم نَبرحْ بمُنْصَدِع

من الجناحين عيٍّ لا يُلَبِّينا

فإِن يَكُ الجنسُ يا ابنَ الطَّلْحِ فرّقنا

إِنّ المصائبَ يجمعْنَ المُصابينا

لم تأْلُ ماءك تَحْنانًا, ولا ظمأً

ولا ادِّكارًا, ولاشجْوا أَفانينا

تَجُرُّ من فنَنٍ ساقًا إِلى فَنَنٍ

وتسحبُ الذيلَ ترتادُ المؤاسينا

أُساةُ جسمِكَ شتَّى حين تطلبهم

فمَنْ لروحك بالنُّطْس المُدَاوينا?

آها لنا نازِحَيْ أَيْكٍ بأَندَلُسٍ

وإِن حَلَلْنَا رفيفًا من رَوَابينا!!

رسْمٌ وقفنا على رَسْمِ الوفاء له

نَجيش بالدَّمع, والإِجلالُ يَثنينا

لِفِتْيَةٍ لا تنال الأرضُ أَدمُعَهم

ولا مَفارقَهم إِلاَّ مُصَلِّينا

لو لم يسودوا بدينٍ فيه مَنْبَهةٌ

للناسِ; كانت لهم أَخلاقُهم دينا

لم نَسْرِ من حرَمٍ إِلاَّ إِلى حَرَم

كالخمر من (بابلٍ) سارت (لدارينا)

لما نَبا الخلدُ نابت عنه نُسْختهُ

تَماثُلَ الورْدِ (خِيريًّا) و (نسْرينا)

نسْقِي ثراهُمْ ثَنَاءً, كلَّما نُثِرتْ

دُموعُنا نُظِمتْ منها مراثينا

كادت عيونُ قوافينا تُحَرّكُه

وكِدْنَ يوقِظْنَ في التُّرْبِ السلاطينا

لكنّ مصرَ وإِن أَغضتْ على مِقَةٍ

عَيْنٌ من الخُلْدِ بالكافور تَسقينا

على جوانبِها رَفَّتْ تَمَائِمُنَا

وحولَ حافاتِها قامتْ رَواقينا

ملاعِبٌ مَرِحَتْ فيها مَآرِبُنا

وأَربُعٌ أَنِسَتْ فيها أَمانينا

ومَطْلَعٌ لِسُعودٍ من أَوَاخِرنا

ومَغْرِبٌ لجُدُودٍ من أَوَالينا

بِنَّا, فلم نَخْلُ من رَوْحٍ يُراوِحُنا

من بَرِّ مصرَ, وَرَيْحَانٍ يُغادِينا

كأُمِّ موسَى, على اسمِ الله تكْفُلُنا

وباسمهِ ذهبتْ في اليَمِّ تُلقِينا

ومصرُ كالكَرْمِ ذي الإِحسان: فاكهةٌ

لحاضِرينَ, وأَكوابٌ لبَادينا

يا ساريَ البرقِ يَرمِي عن جوانِحنا

بعدَ الهدوءِ, ويهمِي عن مآقينا

لما تَرقرق في دمع السماءِ دمًا

هاج البكا, فخَضبْنَا الأَرضَ باكينا

الليلُ يشهد لم نهتِك دَيَاجِيَهُ

على نيامٍ, ولم نهتِف بسالينا

والله من وراء القصد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير