هل أنت إسبانية؟ ساءلتها=قالت: وفي غرناطة ميلادي
غرناطة! وصحت قرون سبعة=في تينك العينين بعد رقاد
وأمية راياتها مرفوعة=وجيادها موصولة بجياد
ما أغرب التاريخ كيف أعادني=لحفيدة سمراء من أحفاد
وجه دمشقي رأيت خلاله= أجفان بلقيس وجيد سعاد
ورأيت منزلنا القديم وحجرة=كانت بها أمي تمد وسادي
والياسمينة رصعت بنجومها=والبركة الذهبية الإنشاد
ودمشق أين تكون؟ قلت ترينها=في شعرك المنساب نهر سواد
في وجهك العربي في الثغر الذي=ما زال مختزناً شموس بلادي
في طيب جنات العريف ومائها=في الفل في الريحان في الكبَّاد
سارت معي والشعر يلهث خلفها=كسنابل تركت بغير حصاد
يتألق القرط الطويل بأذنها=مثل الشموع بليلة الميلاد
ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي=وورائي التاريخ كوم رماد
الزخرفات أكاد أسمع نبضها=والزركشات على السقوف تنادي
قالت هنا الحمراء زهو جدودنا=فأقرأ على جدرانها أمجادي
أمجادها ومسحت جرحاً نازفاً=ومسحت جرحاً ثانياً بفؤاد
ياليت وارثتي الجميلة أدركت=أن الذين عنتهم أجدادي
عانقت فيها عندما ودعتها=رجلاً يسمى طارق بن زياد
فسألت صاحب الشريط بعد ذلك من هو الشاعر الذي يقرأ هذه القصيدة، فقال لي: شاعر يسمى نزار قباني. قلت: هل له قصائد أخرى غيرها. فقال: لا أدري ولكن الناس لا يثنون عليه، ويسمونه شاعر المرأة، ولا أنصحك بتتبع شعره ويكفيك المتنبي وأبو تمام.
ومرت الأيام وسمعت له وقرأت دواوينه، فوصلت إلى أنه شاعر يدعو إلى الرذيلة، وينشر الفسق، ويتحدث عن العشق والغرام وما أنزه أذواقكم عنه. وقد كرهته وحذرت الناس منه ولا أزال، ولكن كل ذلك لم يجعلني أنكر شاعريته. فهو يكتب الشعر بأسلوب فريد، وهو يمثل مدرسة شعرية. كتب شعر التفعيلة وأجاد. نعم قال في شعره ما يفسق، بل وربما يكفر. كل هذا صحيح. ولكنه كتب قصيدته النونية:
أتراها تحبني ميسونُ=أم توهمت والنساء ظنونُ
كم رسول أرسلته لأبيها=ذبحته تحت النقاب العيونُ
يا ابنة العم والهوي أمويٌّ=كيف أبدي الهوى وكيف أبينُ
فاعذرني إذا بدوت حزيناً=إن وجه المحب وجه حزينُ
وكتب قصيدته:
زمانك وبستان، وعيشك أخضر=وذكراك عصفور من القلب ينقرُ
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا=وما كنت عن وعد الهوى تتأخرً
رفيق صلاح الدين هل لك عودة=فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
وكتب قصيدته:
يا شام أين هما عينا معاوية=وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
فلا خيول بني حمدان راقصة=زهواً ولا المتنبي مالئٌ حلبا
وقبر خالد في حمص نلامسه=فيرجف القبر من زواره غضبا
يارب حي رخام القبر مسكنه=ورب ميت على أقدامه انتصبا
يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره=فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا
وأعلم أنه قد قال أبياتاً أخرى فاسقة كافرة كاذبة خاطئة، ولكن هذه وجهة نظر شخصية، فاعذروني وأمروها كما هي.
وأما قول الجرجاني رحمه الله: (والشعر بمعزل عن الدين) في كتابه الوساطة، فإنه لا يعني به فصل الدين عن الأدب؛ فإن الإسلام لم يفصل بينهما ولم يترك لنا من الأمور بقعة شاغرة لم تشملها أحكامه لنضع فيها هذا الأدب الذي لا ينضبط بضوابط الشرع كما تفضلت يا أبا محمد - وإنما يعني بها أن الشعر له قياس آخر. بمعنى أن الناظر في كلام الله وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم يحتاط، ويحذر، ويروز فكره وكلامه ألف مرة، قبل أن يقول فيه شيئاً، لأنه ينظر في الحلال والحرام، خشية أن يستخرج منهما ما ليس من الدين، أو يغفل ما هو من الدين. فإنه لم يصبر علماؤنا على كلام يدرسونه ويتدبرونه، ويستخرجون معانيه، ويبحثون في أسراره، كما صبروا على كلام الله سبحانه.
ولا أحسب أن علماء أمة من الأمم صبروا على دراسة كلام كما صبر المسلمون على دراسة القرآن، وما كتبه الأحبار في التوراة، وما كتبه الرهبان والقسيسون في الإنجيل هو قليل من قليل حين يقاس بما كتبه علماؤنا رضوان الله عليهم حول القرآن الكريم. بذل علماؤنا كل ذلك الجهد الجاهد في دراسة القرآن والسنة، لأن ما فيهما هو دين الله، وحلاله وحرامه، وبيانه وتجليته تكليف لا مفر من إحكامه، والالتزام به، والتقصير في هذا مهلكة لا يدفعها دافع.
¥