وقد لاحظنا هذا الأمر بجلاء في الطفل الذي ينشأ لأب عربي وأم إنجليزية مثلاً، وقد التزم الأب الحديث باللغة العربية في بيته فينشأ الطفل متقناً للعربية/ العامية لغة أبيه، والإنجليزية لغة أمه، بطلاقة تامة.
المأساة: وهنا تظهر مأساة الطفل العربي المعاصر، إنه في سني حياته الأولى يتعرض للعامية، فيتعرف على مفرداتها، ويتقن تراكيبها وقواعدها، حتى إذا ذهب إلى المدرسة وجد أن عليه أن يطلب المعرفة بغير اللغة التي يتقنها. واللغات العامية والتي اصطلح على تسميتها لهجات مختلفة إلى حد كبير عن اللغة الفصحى في المفردات والتراكيب والقواعد.
أما الاختلاف في الألفاظ والمفردات فأشهر من أن يمثل له، وأما الاختلاف في القواعد والتراكيب فإن الفارق أكبر بكثير مما يظنه الإنسان للوهلة الأولى، وهذه
بعض الأمثلة: في العامية يستخدم الطفل (اللي) كاسم موصول للمفرد والمثنى والجمع مذكراً كان أو مؤنثاً، بينما تقابله في الفصحى ثمانية صيغ: الذي، التي، اللذان، اللتان، اللذَين، اللتَين، الذين واللاتي أو اللواتي.
وقد تعلم أن يقول: (كتابَك، قلمَك، رأسَك) بفتح الحرف الأخير قبل الضمير للدلالة على المذكر، وكسره (كتابِك، قلمِك، رأسِك) للدلالة على المؤنث، ثم نعلمه في الفصحى أن ذلك الحرف لا دلالة له على التذكير والتأنيث؛ وإنما يظهر ذلك في حركة الضمير المتصل.
فعندما يُطلب من طفل المرحلة الابتدائية أن يقرأ جملة بسيطة نحو: «جلست الفتاة قرب النافذة» تجده يتهجؤها تهجئة؛ لأن المفردات ليست من مخزونه، وإنما يألف الحروف فقط فيقرؤها حرفاً حرفاً؛ فإذا مللنا من بطئه في القراءة نهرناه وقلنا له: «ما لك يا غبي، إنما نعني: قعدت البنت جنب الشباك»، هكذا نترجمها له إلى العامية!
والحقيقة أن الطفل مسكين، ومعرفته بالحروف الأبجدية ليست كافية للانطلاق في القراءة. إن الكبير حين يقرأ لا يعتمد على تهجئة الكلمة، وإنما يستعين بمخزونه من الكلمات والتراكيب، فيقرأ بسرعة. أعط رجلاً كبيراً نصاً فارسياً أو باكستانياً مكتوباً بالحروف العربية، فماذا يصنع؟ إنه يهجئها حرفاً حرفاً كالصغير تماماً.
ونتج عن هذه المأساة أمران:
1 - عزوف الطفل عن القراءة؛ فإنها تكلفه مجهوداً شاقاً، ولا يفهم كل ما يقرأ، فلا يستمتع بها، والنتيجة ألا يُقبِل على القراءة إلا مضطراً كاستذكار لامتحان أو نحوه، ويصبح هناك نوع من العداء بين الطفل ثم الشاب والكتاب.
2 - صعوبة التحصيل المعرفي والعلمي؛ لأن الطفل غير متمكن من أداته، وهي اللغة الفصحى.
ولتعويض هذا النقص قام التربويون وواضعو المناهج في الدول العربية بحشد عدد كبير من حصص قواعد اللغة العربية وما يتعلق بها في جميع المراحل الدراسية، ولكن النتيجة أن هذه الحصص جميعاً لم تصل بخريج المدرسة الثانوية إلى مرتبة الإتقان.
وقد عقد بعض المختصين مقارنة مفيدة بين عدد حصص اللغة العربية وما يتعلق بها في بعض الدول العربية، من الصف الأول المتوسط وحتى الثالث الثانوي، وبين عدد حصص اللغة الإنجليزية (ليس هناك فصيح وعامي في الإنجليزية) في بريطانيا في الفترة ذاتها؛ فوجد أن عددها في الدول العربية يتراوح بين 1050 و1250 حصة؛ بينما لا يزيد عددها عن 580 حصة في بريطانيا؛ وبإجراء حسابات مباشرة يتبين أن الفارق يتمثل بما يعادل ثلاث ساعات أسبوعياً، على مدى ست سنوات. هذه الساعات الثلاث يقضيها الطفل العربي في تعلم قواعد لغته والتعرف على مبادئها؛ بينما تتاح للطفل الإنجليزي الفرصة لاستثمارها في دراسة موضوعات أخرى.
وبالإضافة إلى الفارق البيِّن في عدد الحصص هناك فارق جوهري في طبيعة المادة المعطاة؛ فبينما يقضي الطفل العربي معظم الحصص في تعلم القواعد والنحو والإعراب فإن الطفل الإنجليزي يقضيها في تحليل النصوص، واستخلاص الأفكار الأساسية وأساليب التعبير وغيرها.
فلا غرابة إذن أن تكون فرص الطفل الإنجليزي للإبداع أكبر من فرص قرينه العربي، وأن نجد في العرب عموماً عزوفاً عن القراءة؛ بينما الأوروبيون والأمريكان يقرؤون في كل مكان (الحافلة، القطار، الطائرة)، وتجارة الروايات لديهم مزدهرة.
¥