الذي يصدره كائنا حيا في فخامة الفيل وبلاده إحساسه ويجعله يجثو ويحفر الأرض بأظلافه ويملا الدنيا بهتاف مروع صارخ .. إنه الألم الذي يسمونه فوق احتمال البشر. فهو لم يخلق لبشر ولم يخلق البشر وتزود أعصابهم بتلك القدرة الهائلة الدقيقة على الإحساس كي يتسحقها ويكوبها ألم كهذا الألم.
أخرج فهمي من مكانه ولا يزال رأسه وعيناه وكل كيانه في حالة تلفت مسعور وبحث عن مفر، مشغول عنه وعن المكان والزمان والدنيا كلها بما هو حادث فيه وبداخله، فيقف ويجثو ويتمدد على بطنه ويركع ويقوم هالعا واقفا ويفتح فمه استعدادا للصرخة، وحتى يكتمها ويحتملها يحشو فمه بذراعه أو بالمخدة أو المقشة ويغرز أسنانه فيها ويسيل الدم من الذراع ومن الفم. ومع نقاط البول الكاوي.
وشعر بضغط خانق يكتم أنفساه وبرغبة مجنونة أن ينطلق هادرا لاعنا نفسه وبلده وأناسها واليوم الأسود الذي كتب عليه فيه أن يولد منها ويصبح عليه أن يحيا عمره كله يحمل عن أناسها همهم وفقرهم وعجزهم ومرضهم وأخيرا آلامهم وبولهم، ولكن ما الفائدة ومن يتلقى لعناته واحتياجاته إنه لا يستطيع حتى أن يطلب من فهمي أن يكف عن الصراه أو يرغمه على البقاء في ركن بعينه من المطبخ إلا إذا كان بأستطاعته أن يأمر الألم الذي في داخله أن يكف والشيطان الذي يمزق أحشاءه أن يهجع.
وسمع خطوات مترددة في الصالة، ومخافة أن ترى الفاجعة الحادثة أطفا النور وأسرع عائدا إلى حجرة النوم ليجد عفت في منتصف المسافة.
- هيه .. عملت إيه؟
- فلت له يسكت ...
- وإن ما سكتش؟!
- حا يسكت ..
أي ياي ياي ياي ياي ياي ياي
وأسرع خلفها إلى حجرة النوم التي فرت إليها مذعورة وما كادت الصرخة تنتهي حتى وقفت تواجهه وتهيئ نفسها للعاصفة المقبلة الهوجاء ولكنه أسرع، واستطاع رغم دفعاتها وتملصها أن يحتويها بين ذراعية، ويقاوم إحساسه بالرغبة الملحة في الانهيار ويعترف لها بصدق واضح وملموس أنه أخطأ وأنه ما كان يجب، وأنه يطلب الصفح، وأن يكون صفحها على هيئة مساعتدته في تدبير الحل للموقف فهما في قلب الأزمة معا ولا سبيل أمامها إلا الاحتمال. وما تنزلوش ينام تحت عند البواب ليه؟ فضيحة والساعة إتين. أروح أنا عند ماما. دلوقتي؟! أنا ما أقدرش استحمل. عشان خاطري. ما أقدرش ... أرجوكي .. غلطة وباعتذر عنها وبأرجوكي أنك تساعدينى وتستحملي ... استحمل إزاي يا رب .. استحمل إزاي ..
...
آي آي آي آي ي ي يا يا ياي
- أه يا مامي ما أقدرش على كده ما أقدرش
و و و و و ه يييييييه
- إيه ده، ده مش بني آدم، دول عفاريت، دول جن، ألحقيني يا ماما أنا ح أجنن.
وشيئا فشيئا بدأ الحديدي يحس أن ارتباطه بحجرة النوم وبالزوجة التي يحتضنها ويسكنها بالبيت والحاضر كله تضعف وبتواترته تتراخى وبواجدانه يستحيل إلى بحيرة هائلة مساء على استعداد لاستقبال أدق الرذاذ الصادر عن فهمي ..
فرتك مرتك شرتك دي دي دي دي دان
الألم لا بد قد إزداد بدرجة مخيفة. خفف عنه يا رب
واج الواج الواج الواج الواج
وإلى جوار هذه القادمة من المطبخ. جاءت أخرى رفيعة طفيلة من الحجرة المجاورة ما كادت تسمعها عفت حتى بقوة عاتية خارقة خلصت نفسه من تكتيفته وجرت خارجه إلى الغرفة الأخرى، ولكن الطفل طفلها الوحيد قابلها قادما باكيا مناديا: يا مامي .. واحتضنته وحملته وبتنمر وتوهج قالت للزوج:
- سامع: أنت لازم تطرده حالا دلوقتي
يروح يشوف له مصيبة يبات فيها .. دا الولد قايم يرجف ... يا مصيبتي.
- يا عفت أرجوكي .. أنا شرحت لك الظروف - الراجل ده عندي مهم قوي وما أقدرش أطرده.
- مهم أكتر مني ومن فهمي ده.
- مش أكتر إنما مهم، كفاية تعرفي أنني مسمي فهمي ابننا ده على اسمه .. ده الوحيد اللي خرجت به من طفولتي.
- يا ح تطرده يا ح أسيب لك البيت وأنزل.
- أنتي عايزة مني إيه .. أركع لك .. قلت لك أرجوكي .. أنا ح أجيب له دكتور يديله مخدر دلوقتي ويسكته وأنشغل بكليته في عملية استدعاء طبيب الإسعاف وانتظاره. ولم يدهش حين أخبره الطبيب أن المخدر في حالة كتلك ضعيف المفعول لا ينجح عادة في تسكين الألم فآلام هذا النوع من السرطان أقوى من المخدرات وكل المسكنات التي اخترعها الإنسان.
وكانت الفائدة الأهم للطبيب أنه أعطى الزوجة حقنة من عقار منوم. وبعد مدة قليلة نام فهمي الطفل في حضن أمه.
¥