وأخيرا أصبح وحدة مع الصرخات القادمة من الأعماق وكما قال الطبيب لم يكن المخدر قد أحدث تأثيرا يذكر المشكلة الآن أن يعاد الاتصال ... أن يعود إلى نفس الحالة الوجدانية التي كان عليها قبل أن يصحو الولد وتثور الزوجة أنه لا يعرفها ويذكرها وهي قريبة دانية منها وكلنها ترف وتذهب، يتذبذب بينها وبين حالتة العادية يه يه يه يه يه فمندا مندا مند هوندا بندا سارادات.
وأحس براحة باهتة وبالأصوات تصل إلى مكان سحيق داخلي فهي وتنعشه في رقة وعذوبة بالضبط هذا هو المكان هنا يحس بها تتجمع ... آهاته التي لم يطلقها أي باي يانا يا بوي.
يا بوي موجوعة تأتي للحديدي بالضبط على الوجع. يابوي إنها ليست من لغة الحياة ولكنها من لغة الأعماق والآي إنه يحس بها تعبر عن وجعة هو منذ سنوات وسنوات وهو يريد أن يقف في ميدان التحرير ويستجمع شجاعته. وبكل قوة وبالحر ما يستطيع يطلقها عالية موجودة صادرة رأسا من الوجع مثلما يفعل فهمي الآن ولكنه في اللحظة الأخيرة يعدل ويضعف ويخاف أن يفر منه الناس ويتهمون بالجنون فيخمدها ويكبتها ويردها إلى حيث ترقد الكثيرات من زميلاتها المكبوتات المحبوسات.
آي آي آي فركش أن منكش أي بعقش أي ...
الآن فقط يحس بها كلها. آلامه. ويحس بها أبشع حتى من آلام فهمي وأوجاعه .. كل الفرق أنه ليس له الحق في التوجع مثل لن يصدقه أحد إذا صرخ وترك أعماقه تعبر عن نفسها المكتومة الوارمة المضغوطة ألم بلا آهات أضعاف أضعاف الآلم. الآن وهو مع وحيد مع نفسه وموجوع مثله وأعماقه مفتحة الأبواب أمامه يستطيع أن يسأل نفسه: ماذا يؤلمه؟ إنه فوق القمة كل الخط العريض الذي رسمه لحياته تحقق زوج ورب أسرة وسعيد مخوط بالرعاية والحب والاحترام أن يكون فمن أين تجيئه الآلام التي لا تطاق حتى أنه ليحسد فهمي على حالته.
ترى ماذا كان يفعل ويشعر لو حدث له ما حدث لفهمي وبدلا من التعليم المتواصل الذي هيأه له أبوه الصراف الذي كانوا يتندرون عليه ويسألونك وأنت ذاهب لتدفع المال مال الحكومة واللامال الصراف. بدلا من هذا أخرجه أبوه من المدرسة واشتغل فلاحا كان هذا مصيره أي إنسان في مكانه لابد أن كان يقبل يده ظاهرا وباطنا أين هو وأين فهمي؟ هو الذي لابد تختاره إذا طلب إليك أن تختار مائة يمثلون الصفوة في هذا البلد. المتمتع بكامل صحته وحياته لا حق من حقوقه مهضوم ولا شعرة ظلم تمسه أو تمس مركزه أين هو من إنسان كفهمي تكفل الفقر بالقضاء على عقله وأحالة إلى واحد آخر من ملايين الفلاحين السذج. وتكلت البهارسيا بالقضاء على جسده ... فالمفروض أنه الآن ميت وعمره مسألة أيام وحياته كانت أبأس حياة وشقاؤه كان من نوع يضرب به المثل ... لو كان قد حدث له هذا ... تراه ماذا كان يقول عن "ألمه" المزعوم وأوجاعه؟
قال الحديدي لنفسه بلا تردد: كنت أكون أسعد.
كيف؟ المسألة ليست فقرا وغني أو تعليما وجهلا السؤال هو؟: هل أنت حي أم ميت؟ فهمي رغم كل شيء حي وعاش أما أنا فلم أحي والحياة أي حياة أروع ملايين المرات من الموت أي موت حتى لو كان الميت مكفنا في ملابس أنيقة محتلا أرقى المناصب سعيدا في حياته الزوجية.
ولكنك حي. أنا ميت إنه ليس تلاعبا بالألفاظ إنها حقيقة المقياس الوحيد للحياة أن تشعر بها وأنا لم أشعر ولا أشعر بها إنني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول ... وحين أصل لا أسعد لأن أمامي يكون ثمة وصول آخر.
إن فهمي قد عاني من الفقر والبؤس ولكنه كان يعمل مع الرجال ويضحكون سويا ويتشاورون في مشاكل العمل ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق يفرحون لعود الفجل إذا أضيف إلى الأكلة ولا أحد منهم يأكل بمفرده إذ الطعام ليس أن تجوع وتملأ بطنك ... الأكل عندهم أن يحل موعد الطعام ويلتفون حوله في ترحيب ويتعازمون ويهزرون ويحسون أنهم يقومون باحتفال إنساني صغير. أنهم يفعلون هذا دون إدراك لكنهه ولكنههم به. بهذه الأشياء الصغيرة المتناثرة في طريق حياتهم يمتلئ كل منهم بإحساس يومي متجدد إنه حي وأن الحياة مهما صعبت حلوة.
¥