ولا شك أن البحث في هذا المجال يجب أن يبدأ بدراسة الأيدولوجيا كنسق فكري فاعل والاتفاق على خصائص المنظومة الفكرية التي ينطبق عليها وصف أيدولوجية، حتى إذا ما تم الاتفاق على معايير التصنيف وقبلنا أن هذا النسق أو ذاك هو بالفعل أيدولوجيا، ننطلق إلى دراسة الأيدلوجيات المتباينة وتحليلها والمقارنة بينها.
وهناك سؤال أخير مهام أيضًا .. هو ما الذي نتعلمه أو نستفيده من كون الليبرالية أو النسوية أو الفاشية تصنف باعتبارها أيدولوجيات، وما دلالة هذا للبحث والفهم والتفسير.
سلبية أم إيجابية؟
أول مشكلة تواجه الباحث في طبيعة الأيدولوجيا وماهيتها هي تعدد التعريفات لهذا المصطلح بشكل كبير وأحيانًا متناقض، فهي تُعَدُّ أكثر المفاهيم مراوغة وإثارة للحيرة في مجال العلوم الاجتماعية برمته.
فالأيدولوجيا من المفاهيم السياسية القليلة التي أثارت هذا القدر من الجدل والخلاف، وهناك سببان لذلك، أولاً: لأن المفهوم يجمع جوانب نظرية وعملية ويطرح إشكالية العلاقة بين الفكر والعقيدة من ناحية والسلوك من ناحية أخرى، وكذلك العلاقة بين المعطيات المادية والإدارة السياسية.
وثانيًا: لأن تعريف الأيدولوجيا ذاته لم ينجُ من النزاع بين الأيدلوجيات ذاتها في تعريف المفهوم وملامحه وأبعاده وتشابكاته النظرية والعملية، فقد استخدم المفهوم من جانب الأيدولوجيات المختلفة كسلاح في مواجهة خصومها، ونقد أفكارهم إما باتهامها أنها أيدلوجيات مثالية لا صلة لها بالواقع، أو العكس: باتهامها أنها مجرد أفكار متناثرة لا تشكل أيدولوجيا متكاملة صالحة للتطبيق الشامل لتغيير الواقع أو إصلاحه بشكل كلي.
ولم يكتسب مفهوم الأيدولوجيا طبيعة موضوعية ومحايدة في تحليل الأفكار إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى مع هذه المحاولة لضبطه وإكسابه طبيعة تحليلية رصينة، فقد استمر الخلاف حول الأهمية الاجتماعية والدور السياسي للأيدولوجيا. وتُعَدُّ أكثر التعريفات شيوعًا للأيدلوجية هي أنها ..
- نسق عقيدي سياسي
- مجموعة من الأفكار السياسية ذات توجه عملي/ تطبيقي.
- أفكار الطبقة الحاكمة.
- رؤية فئة اجتماعية أو طبقة للعالم.
- أفكار سياسية تعبِّر عن مصالح اجتماعية وطبقية.
- أفكار دعائية توظف لتزييف الوعي بين المستغلين والمضطهدين.
- أفكار تضع الفرد في سياقه الاجتماعي وتدعم الشعور بالانتماء والهوية الجمعية.
- مجموعة من الأفكار يدعمها النظام السياسي بشكل رسمي ويستمد منها شرعيته.
- مذهب سياسي شامل يدعي احتكار الحقيقة.
- منظومة نظرية مجردة ومتماسكة من الأفكار السياسية.
وربما كان أصل المصطلح هو من الأمور القليلة المتفق عليها، فكلمة أيدولوجية بدأ استخدامها إبان الثورة الفرنسية على يد "أنطوان ديستوت دوتراسي" (1754 – 1836م)، واستخدمت لأول مرة بشكل علني عام 1796م، وقد عرف "دوتراسي" الأيدلوجية بأنها علم جديد للأفكار، أي تعريف مرتبط بمعناها الحرفي:
فالشق الأول للكلمة هو مقابل الأفكار idea والثاني مقابل العلم ology.
وقد كان دوتراسي متأثرًا بالولع السائد حينئذ بفكرة العقلانية التي كانت في أوجها مع صعود مذهب الحداثة، ورأى أنه من الممكن موضوعيًّا اكتشاف جذور الأفكار ونشأتها وأن "علم الأفكار" هذا سيتطور؛ ليأخذ مكانه جنبًا إلى جنب مع العلوم المنضبطة كالأحياء والطب وغيرها، بل ولأن كل طرق البحث تتأسس على الأفكار؛ فإن علم الأفكار الجديد هذا سوف يصبح تاج العلوم.
ورغم هذا التقدير للأفكار عند نشأة استخدام مصطلح الأيدولوجيا وعلو الآمال التي كانت معقودة عليه، فإن هذا الفهم والتصور للأيدولوجيا يختلف عن تعريفاتها وتصوراتها اللاحقة وما آلت إليه.
وقد حاول التمييز بين مفهوم جزئي ومفهوم شامل للأيدولوجية، فالأيدولوجيات الجزئية هي أفكار ومعتقدات أفراد بعينهم أو جماعات أو أحزاب، في حين أن الأيدولوجيات الشاملة هي مجمل الرؤية للحياة والعالم لطبقة اجتماعية أو لمجتمع أو لحقبة تاريخية معينة.
وبهذا المعنى فإن الماركسية والليبرالية بل والصحوة الإسلامية يمكن وضعها جميعًا بأنها أيدلوجيات شاملة.
¥