وقد أدى هذا إلى عودة الاستخدام الضيق ذي الدلالة السلبية لمفهوم الأيدلوجية كما يبرز في كتابات "كارل بوبر" (1902 - 1994)، و"هانا أرندت" (1906 - 1975) و"جي. إل. تالمون" و"برنارد كريك" ومنظري (نهاية الأيدلوجية)، والذين رأوا أن الأفكار الشاملة بالضرورة شمولية، فالفاشية والشيوعية مثالان بارزان للأيدولوجية بمعناها القمعي المعادي للحرية، وطبقًا لهذه الكتابات فإن الأيدولوجية هي أنظمة فكرية مغلقة تزعم احتكار الحقيقة وترفض قبول الأفكار المخالفة والعقائد الأخرى، فالأيدولوجية حسب وصفهم هي أديان وضعية تملك طبيعة الشمول، وتستخدم كأدوات في الضبط الاجتماعي، وضمان الخضوع والتواؤم مع السائد، لكن وفقًا لهذا المعيار فإنه ليست كل العقائد السياسية يصلح وصفها بالأيدولوجية، فالليبرالية بتأسسها على الالتزام بالحرية والتسامح والتعدد هي أبرز مثال على وجود نظام مفتوح للأفكار في نظر مفكر مثل "كارل بوبر".
المحافظون أيضا رأوا الأيدولوجية كقرين الجمود والتحجر الفكري وأنها منفصلة عن الواقع المركب للحياة؛ لذا فقد رفض المحافظون أن تخضع السياسة للأيدلوجية، وأن يكون هدف العمل السياسي هو إعادة تشكيل العالم بناءً على أفكار مجردة أو نظريات مسبقة، وقد ظلت هذه هي رؤية المحافظين، حتى بدأ تأثير اليسار الجديد يغير بعضًا منها بعد أن ظلوا لفترة طويلة يتبنون الموقف التقليدي الذي يرفض الأيدولوجيا لصالح السعي العملي في الممارسة السياسية، ويرى في الخبرة والتاريخ – وليس النظرية والفلسفة – أفضل مرشد للسلوك الإنساني.
ومنذ الستينيات من القرن العشرين عاد استخدام مفهوم الأيدلوجية وفق احتياجات التحليل الاجتماعي والسياسي، وتم إعادة تشكيله ليعود للمفهوم طبيعته المحايدة الموضوعية بعد أن زالت الارتباطات السلبية بينه وبين توجهات الأنظمة أو سياسات بعينها.
العلاقة بين الأيدولوجية والحقيقة:
ما هي العلاقة بين الأيدولوجية والحقيقة، وبأي معنى يمكن النظر للأيدولوجية كنوع من القوة؟
يثير أي تعريف قصير مختصر للأيدولوجية من الأسئلة بأكثر مما يقدم من إجابات، لكنه يمثل على أية حال بداية جيدة للبحث في الموضوع.
فلنقبل مبدئيًّا أن الأيدولوجية تعريفها الواسع هي أنها مجموعة من الأفكار المتجانسة بدرجة أو أخرى والتي تمثل الأساسي لحركة سياسية منظمة، سواء أكان هدفها المحافظة على نظام القوى السائد، أو تعديله، أو الإطاحة به.
ولذا فإن كل الأيدولوجيات: (أ) تقدم تصورًا للنظام القائم وعادة ما يتم هذا في صورة رؤية للعالم. (ب) تقدم نموذجًا للمستقبل المنشود أو المجتمع الأفضل/ الصالح. (ج) تصور كيف يمكن أن يتم التغيير.
وهذا التعريف ليس جديدًا ولا مستحدثًا، وهو يتفق مع الاستخدام الاجتماعي العلمي للمفهوم، إلا أنه يلفت الانتباه في الوقت نفسه لبعض أبرز خصائص ظاهرة الأيدولوجية، ويؤكد بخاصة على أن تركيب مفهوم الأيدولوجية يرجع إلى كون المفهوم يتجاوز الحدود الفاصلة بين الفكر الوصفي والفكر المثالي القيمي، وبين النظرية السياسية والممارسة العملية، فالأيدولوجية باختصار تقوم بنوعين من التركيب أو التأليف: التأليف بين الفهم والالتزام، وبين الفكر والحركة.
وبالنسبة للمركب الأول فإن الأيدولوجية تتخطى الفاصل بين "ما هو كائن" و "ما ينبغي أن يكون"، فالأيدلوجية وصفية؛ لأنها تزود الأفراد والجماعات بخريطة فكرية توضح كيف تدور آلة المجتمع، وكذلك تزوِّدهم برؤية للحياة والعالم، وبذا تلعب الأيدولوجية دورًا مهمًّا في دمج الأفراد والجماعات - عبر هذا الفهم - في بيئة اجتماعية ما.
لكن هذا الفهم الوصفي مقترن بقوة بنسق من القيم العقيدية والرؤى العلاجية التي بها يتم تقويم الترتيبات الاجتماعية القائمة وطبيعة المستقبل، والصورة المنشودة للمجتمع في المستقبل.
الأيدولوجية لذا لديها آثار نفسية/عاطفية قوية، فهي وسيلة للتعبير عن الآمال والمخاوف، والميول والنفور، كما أنها تقوم ببلورة العقائد والرؤى، والتعبير عنها بوضوح.
¥