لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الإطار السياسي والجتماعي تهدم بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه. وكثيراً ما تعمد مراصد الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا الاتجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتحطم الفكرة البناءة من وراء سقوط الأشخاص الذين يمثلونها في النهاية، وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة الاصلية من الشرق والغرب عبر بطل جديد.
فعدم التوازن في العناصر الثلاثة يفضي بنا على انهيار المجتمع، والمجتمع العربي الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه الاتجاهات، لأن نهضته لم يُخطط لها. ولم يُفكر بها بطريقة تأخذ بإعتبارها عوامل التبديد والتعويق سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وعلى الأغلب الاثنين معاً.
إن أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين: فهي إما ان تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية، وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة، تجعل النمو الاجتماعي صعباً أو مستحيلاً.
وهنالك فضلاً عن ذلك جانب آخر لأهمية الأفكار في العالم الحديث: ففي القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة، وكان مركز الأمة يقدر بعدد مصانعها، ومدافعها، واساطيلها البحرية، ورصيدها من الذهب، ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطوراً معلوماً، هو أنه قد أعلى من الفكرة باعتبارها قيمة قومية ودولية. هذا التطور لم تشعر به كثيراً البلدان المتخلفة، لأن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها ضرباً من الغرام السقيم بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على (الأشياء).
فالإنسان المتخلف وبسبب عقدة تخلفه يرد المسافة بين التقدم والتخلف إلى نطاق (عالم الأشياء)، أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص مالديه من مدافع وطائرات ومصارف ... الخ.
وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى تكديس المشكلات، فلكي يصبح مركب النقص لديه فَعّالاً مؤثراً ينبغي أن يرد الإنسان تخلفه إلى مستوى الأفكار لا إلى مستوى الأشياء، فإن تطور العالم الجديد دائماً يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية.
ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه، فهو بصفة عامة قوة في الأساس، وتوافق في السير، ووحدة في الهدف، فكم من طاقات وقوى لم تُستخدم؛ لأننا لا نعرف كيف نُكتّلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه، ومتجهة إلى الهدف نفسه.
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية. وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود.
فلا يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً، بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية التي نريد تحقيقها.
إننا نرى في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من اللا فاعلية في أعمالنا، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث وفي المحاولات الهازلة.
وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادها الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها، فثقافتنا لا تعرف مثلها العليا وفكرتنا لا تعرف التحقيق، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها.
إن الذي نقص العربي ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط.
أما في مستوى المجتمع الذي يعيش أزمة ثقافية فإننا نستطيع حصر العديد من الملاحظات ويكفينا لذلك أن نرى بالعين المجردة ما يدور في حياته الاقتصادية والسياسية.
¥