البيت الأول جامع لمن مضى ولمن يأتي ولمن هو موجود مع المتكلم في زمانه من أهل المحبة، فهو يخبر السالكين في هذا الطريق عن النتيجة التي وصل إليها في المعرفة بأن الوجود واحد فيقول لهم لن تصلوا إلى هذه المعرفة إلا بالاستماع لي والاقتداء بسلوكي، لأنه كما هو معلوم أن ابن الفارض كان أحد العلماء ثم تصوف فترك العلم وصار يهيم في جبل المقطم ينتظر أن يأتيه الفتح _وإن شئت قلت الوحي _ فهو يريد القول بأن هذه المعرفة التي سماها بالحياة هي نتاج الرياضة النفسية التي استعملها في الخلوات في الجبال لا طريق العلم، لأنه أمر بالاقتداء به لابالعلماء أو بالشريعة.
قدم الشاعر في الشطر الأول المجرورات (عني)، (بي)، (لي) على الأفعال (خذوا)، (اقتدوا)، (اسمعوا) وفي هذا التقديم زيادة في الاهتمام بنفسه، وأنه اختص نفسه دون غيره بالأخذ عنه والاقتداء به والسماع له في كل ما يقوله ويفعله بغض النظر إن كان فعله صحيحا أو خاطئا، فهو يرى نفسه أنه وصل إلى مرحلة الولي الصالح المنزه عن المعاصي أو الأخطاء، ولو أنه قدم الفعل على الجار والمجرور لكان بالإمكان أن يؤخذ عنه وعن غيره، ولكن زيادة الأنا لديه وشعوره بتضخم الذات وتعاليها واقترابها من حبيبها وإحساسها بقرب التوحد به لجأ إلى تقديم الجار والمجرور المشتمل على ضمير المتكلم لتأكيد العلو والتفرد.
بينما نلاحظ في الشطر الثاني أنه قدم الفعل (تحدثوا) على الجار والمجرور (بصبابتي) لأنه لا يريد أن يكتفوا بالحديث عن صبابته فقط وإنما يطمح إلى الحديث عن صبابته وعشقه وعن كل أحواله وسكناته وهمساته وأفعاله وأقواله، فيستمر في مسلسل الأنا المستعلية في تقديم الفعل (تحدثوا) لأن التحديث وسيلة إعلامية يريد منها انتشار خبره إلى أكبر مساحة ممكنة.
(الورى): وتعني الخلق "وقيل هو مأْخوذ من معنى الستر والإخفاءِ لأنهم يسترون وجه الأرض. ولهذا لا يُطلَق على من مضى أو سوف يأْتي من الخلق بل على من حضر فقط."
اختيار منطقي من ابن الفارض لكلمة (الورى) لأنه من المستحيل أن يتحدث عنه من مات من الناس أو من لم يأت إلى هذه الحياة، فالذي سيتحدث عن ابن الفارض هو من حضر فقط ورأى صبابته وتعلقه بالله ليكون وسيلة فيما بعد للحديث عنه إلى الأجيال القادمة.
والورى مناسبة لكلمة (تحدثوا) لأنه طلب من الناس الحاضرين الحديث والإعلان عنه حتى يضمن لنفسه الاستمرار والخلود، فتحدث الورى عنه في ذلك الزمان يضمن له بقاء ذكراه خالدا للأجيال اللاحقة، فإن لم يتحدث عنه الورى فلن يضمن لنفسه الخلود، ولماتت ذكراه في الأجيال القادمة.
الآن يتبادر في أذهاننا هذا السؤال!
من أنت يا ابن الفارض حتى عنك نأخذ وبك نقتدي ولك نسمع وعنك نتحدث؟ وكيف وصلت إلى هذه المرحلة العظيمة من الثقة العمياء؟
يجيبنا ابن الفارض في البيت التالي:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرق من النسيم إذا سرى
هنا ابن الفارض يجيبنا على تساؤلنا السابق، ويخبرنا أن السبب الذي أهلّه لأن نأخذ ونسمع عنه هو أنه وصل إلى درجة كبيرة، وهي الخلوة مع الحبيب ويقصد به الله عزوجل، فالخلوة عند الصوفية:" انقطاع عن البشر لفترة محدودة، وترك للأعمال الدنيوية لمدة يسيرة، كي يتفرغ القلب من هموم الحياة التي لا تنتهي، ويستريح الفكر من المشاغل اليومية التي لا تنقطع، ثم ذكرٌ لله تعالى بقلب حاضر خاشع، وتفكرٌ في آلائه تعالى آناء الليل وأطراف النهار، وذلك بإرشاد شيخ عارف بالله، يُعلِّمه إذا جهل، ويذكِّره إذا غفل، وينشطه إذا فتر، ويساعده على دفع الوساوس وهواجس النفس."
و غرض الخلوة عند الصوفي هو الوصول إلى مرحلة جديدة تسمى الجلوة وتعني خروج العبد من الخلوة بالنعوت الإلهية، إذ عين العبد وأعضاؤه ممحوة عن الأنانية، والأعضاء مضافة إلى الحق بلا عبد،يعني هنا في حال الجمع عندما يرى الوجود واحد أي أن الخالق والمخلوق شيء واحد.
(ولقد خلوت): يؤكد ابن الفارض خلوته مع الحبيب ولذلك لأن حرف (قد) إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التأكيد.
(سر أرق من النسيم) نلاحظ هنا أسلوب آخر من أساليب المبالغة التي يمتاز بها ابن الفارض، فهو يصف السر بأنه أرق من النسيم، والنسيم في الأصل ريح رقيقة لينة لا تحرك شجرا، فوصف السر بأنه أرق من الرقيق.
¥