تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف. مطردة اطراد القوانين الكونية، حتى جاء ذلك اليوم … ودقت الساعة دقاتها الثمان، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ لكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم، وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألماً شديدا لم يفارقها منذ الصباح. وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يرها وهي التي عودته الانتظار عند الباب، ولم تحد هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته، فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده، فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة. فهز رأسه ودخل، فلما وقع بصره عليها لم تتمالك نفسها فنهضت على غير شعور منها تقبل يده، فلا مست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة، وكان الشيخ على ما يبدو من شدته وحزمه وحبه للنظام، قوي العاطفة، محبا لزوجته مخلصا لها، فرجع من فوره ولم يأكل، ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله واكتفوا بتبادل الآراء لتعليل هذا الحادث الغريب، الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر عن مداره. ومضت على ذلك ساعة أو نحوها، فدخل الشيخ وصاح: (روحوا من الطريق)، فاختبأ النسوة ليدخل الضيف، غير أنهن نظرن من شق الباب _ على عادة نساء البلد _ فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل كلما تردد عليه المرض … وكان الطبيب شيخا وكانت بينه وبين العجوز قرابة، ومع ذلك أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وألا تظهر منها إلا ما لابد من إظهاره، ثم أدخله عليها، فجس نبضها، وقاس حرارتها، ورأى لسانها. وكان هذا منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام، ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب، فودعه الشيخ وعاد، فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وأن تلزم الحمية وأن تتناول العلاج الذي يأتيها به …

مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش، وكان المرض يشتد عليها حتى تذهل عن نفسها، وتغلبها الحمى فتهذي … ((صارت الساعة الثامنة … يلاّ يا بنت، حضري الخوان … والقبقاب؟ هل هو في مكانه …))، وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها، وكانت بنتاها وكنتها يمرضانها ويقمن في خدمتها فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟ والدار؟ هل هي كعادتها أم اضطربت أحوالها؟ ذلك همها في مرضها وفي صحتها، لا هم لها سواه.

وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبراً، وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها في كنف زوجها، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل، منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقد بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين، فيجتمع لها كم أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي) ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط وأشكال المكدوس معمل أمقار (كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامته، ولا يعيقها ذلك عن تربية الأولاد ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل، وتغسل القمح تعجن العجين.

حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة…؟ لقد آلمها وحز في كبدها، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته و هوله، فلم يكن من ابنتها وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها وطفقتا تعقدانه أمامها، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز.

واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً، ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حارا مدراراً، وهم لا يدرون ماذا يعملون، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدونها. ثم هدأ صياحها، وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة، ووقف من وفق حائراً يبكي.

ولكن العجوز عادت تنطق بعد ما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا، وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب … بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة، وكان آخر ما فكرت فيه عند موتها، وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها: زوجها ودارها … ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله، ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء. لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة فخلت حياته من الحياة، وعادت كلمة لا معنى لها، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام، فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه، وامتدت إلى (الخرستان) السرية التي أصبح بابها مفتوحاً، فلم تبق فيها تحفاً ولا مالاً، وهو لا يأسى على شيء ضاع عد ما أضاع شقيقة نفسه. وتهافت هذا البناء الشامخ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين، فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق كله طهر وتضحية ونبل!

انتهت القصة (المصدر: طريق الإسلام).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير