هذا ابن بيت قديم نكبته السياسة، كما قلنا، ولكنها تأصلت فيه، فجاء سياسياً أباً عن جد، و السياسيون المنكوبون في كل عصر يصبحون أفقر البرية متى انتزعت منهم أملاكهم، كما حل ببيت الشدياق، فقد أخذ المير أملاكهم حتى لم يدع لهم بيتاً فغادر عشقوت واستقر في حارة البطم بحدث بيروت، وورث فارس عن أبيه الذي مات في دمشق شهيد ثورة سياسية، مكتبة ثمينة، فصار نساخاً له وللناس. وضاق به المعاش فكان ((عطاراً)) يطوف الضيع خلف حمار، ثم لم تربح تجارته فانقلب صاحب دكان، وأخفق أيضاً فصار كاتباً لبعير بيعر – أمير حيدر – صاحب التاريخ الذي طبعته الحكومة اللبنانية مؤخراً – فنسخ له سفاسفه التي يحدثنا عنها في فارياقة، وقد حدثنا عن غفلة أميره هذا، وعن أشياء أخرى، لا محل لذكرها هنا، فارجع إليها بنفسك فليس عليّ أن أزقك كالفرخ، أما الآن فسمع شيئاً من سفاسف بعير بيعر مما كان يكتبه الفارياق في أساطير بعير بيعر أي في تاريخ المير حيدر: ((في هذا اليوم وهو الحادي عشر من آذار سنة 1818 قص فلان بن فلانة بنت فلانة ذنب حصانه الأشهب بعد إذ كان طويلاً يكنس الأرض، وفي ذلك اليوم عينه ركبه فكبا به)) إلخ.
((اليوم نظرت سفينة في البحر مارة، فظن أنها بارجة قدمت من أحد مراسي فرنسا لتحرير أهل البلاد، لكن عند التحقيق علم أنها إنما كانت زورقاً مشحوناً ببراميل فارغة، وكان سبب قدومها للاستقاء من كذا)) (الفارياق ج1، ص39).
ونكب أخوه أسعد – كما مر – ففر من بلاده يطوف الدنيا، وظل يشقى ويسعد حتى مات أخيراً شبعان من كل شيء. فغير عجيب إذن إن لمحت فيما صنفه وكتبه دروساً عميقة لأخلاق الناس. قد عالج الكثير من شؤون النفس معالجة النطاسي الأخلاقي، ولو كان غير عربي لدرسته المدارس كما يدرسون لابروير، وعول الناس على رأيه فيها كما كان يعول عليه في سياسة الشرق.
إن فصوله التي أذاعتها جوائبه تحت عنوان ((جمل أدبية)) وهي كثيرة تبتدئ غالباً بـ ((من الناس)) تنم من عالم بسيكولوجي يحلل خوالج النفوس ويصورها بقلم غني جداً، معتمداً في الغالب على عينه التي كانت تسبر الأعماق النفسانية، فيدرك الكثير مما يمر به سواه ولا يرى فيه شيئاً.
أحمد المتمغرب:
عجب الناس لهؤلاء المتمشرقين الذين درسوا أدبنا وكتبوا بلغتنا. وتمنى الأستاذ إبراهيم المنذر – بمناسبة الكلام على كتاب ((المستشرقون)) النفيس للأستاذ العقيقي – أن يكون عندنا متمغربون. يا سبحان الله! أما وجد الشيخ فينا متمغرباً! أما رأى أولاده في بيته ..... إننا لأحوج إلى التمشرق.
فجبران متمغرب، وغانم مثله، و الريحاني أيضاً، و القرم وخلاط وفصيلتهما كذلك، و السمعاني و الحاقلاني ونوفل و التولاوي و الفغالي متمغربون، فما أكثر الغربيين فينا وأقل الشرقيين.
قد تمغربنا، وكتبنا بلغة القوم كما كتب نوابغهم، أما هؤلاء المتمشرقون فآثارهم أمامك، وإن كنت لم ترها فارجع إلى الفارياق وكشف المخبا فعند أحمد الخبر اليقين. أما إذا كنت تبغي متمغرباً بالمعنى الأتم، فها هو أمامك. هو ذلك الجهبذ – لم أجد لفظة أصلح منها فكأنها وضعت لتقال فيه – هو ذلك النائم في الحازمية نومة الأبد بعد ما ملأ الدنيا نصف قرن.
هذا الذي تمغرب وثأر للشرق من كتّاب الغرب، واكتشف من عيوبهم أكثر مما اكتشفوا عندنا. ولكنه كان أعدل منهم، فذكر ما لهم وما عليهم، بينما هم لا يرون عندنا إلا المخازي و المعايب. قد زيف بضاعة المتمشرقين المزجاة، فاقرأ تعلم أي مقدار من العلم بلغة العرب عند هؤلاء الذين نمشي وراءهم ولا نسأل إلى أين. فما رأيكم بواحد من هؤلاء يقرأ ((حيل بينهما)) جبل ببنها! وذلك في قول الشاعر الأندلسي:
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
ثم شرحه شرحاً وافياً، فصرف ساعات تامة في شرح جملة غير تامة كما قال الشدياق. اقرأوا في الفارياق تلك العظة الشهيرة التي ألقاها أحد هؤلاء المتمشرقين في كنائسنا، ولا ترموا شيخنا بالغلو.
فقد سمعت بأذني الثنتين عظة مثلها. فهذا هو المتمغرب الكامل الثقافة.
¥