فالمرئيات كما قلنا نواة أدبه، تلقى في أرض أسلوبه المغلال، فتعطي الواحدة مئة، كالحبة التي ضربها الإنجيل مثلاً. وقد تكون الفكرة مبتذلة فيجلوها المعلم، كجنان النواسي، فتفضح العروس وتفتن النظارة.
ذوقه الفني:
لا أعلم لماذا يعجبني فن هذا الرجل، فإذا قرأت الفارياق أنكرت أن يكون سيرة حياة، فهو عندي قصة رائعة، وهل نكتب غير قصتنا قصة غيرنا. ماذا كان يقصد أحمد فارس حين ترك الأرقام التاريخية في فارياقه؟ وماذا كان يقصد حين جرد من نفسه شخصاً سماه الفارياق فكتب قصته بلسانه؟ أي فن أراد، وأي إحساس أحس حين فعل هذا؟ أما قرأت أن نقاد الغرب أعجبوا اليوم بأندره مروا لأنه فعل ما فعله الشدياق منذ قرن؟ إنني لواثق بأن شدياقنا كامل الذوق، وهو لو لم ينفق جل حياته في شؤون أخرى لما قصر في الفن والأدب عن أعاظم رجاله اليوم. وإليك نموذجاً يدلك على ذوق إمامنا الفني. قال في الرقص:
((وكان للحاكم عادة [في مالطة] أن يدعو جميع المعروفين في خدمته إلى ليلة عيد يرقص فيها الرجال و النساء بحضرته، وكان من جملة المدعوين الفارياق وزوجته. فلما رأت هذه الرجال يرقصون وهم مخاصرون للنساء قالت لزوجها: هل هؤلاء النساء أزواج هؤلاء الرجال؟ قال: منهن هكذا، ومنهن بخلاف ذلك. قالت: وكيف يخاصرونهن إذاً؟ قال، هذه عادة القوم هنا وفي سائر بلاد الإفرنج. قالت وبعد المخاصرة ما يكون منهم؟ قال: لا أدري، ولكن بعد انفضاض الناس يذهب كل إلى منزله. قالت: أشهد بالله إنه ما خاصر رجل امرأة إلا باطنها! قال: لا تسيئي الظن، إنها عادة مشوا عليها. قالت: نعم، هي عادة ونعمت العادة، ولكن كيف يكون إحساس المرأة حين يلمسها رجل جميل في خصرها؟ فقلت: لا أدري، إنما أنا رجل لا امرأة. قالت: ولكن أنا أدري، إن الخصر إنما جعله الله في الوسط مركزاً للإحساس الفوقي و التحتي، ولذلك كانت النساء عن الرقص و القرص في أي موضع كان من أجسامهن يبدين الحركة في الخصر. ثم تنفست الصعداء وقالت: يا ليت أهلي علموني الرقص، فما أرى فيه لأنثى نقص. فقلت: لو فتحت ((الصاد)) في كل من المصراعين لكان بيتاً مطلقاً.
يا للفضيحة بين الأنام، أتقول هذا الكلام في هذا المقام. فقلت: هيت إلى البيت، فقد كفاني ما سمعت الليلة وما رأيت. قالت: لا بد من أرى ختام الرقص. قال: فلبثنا إلى الصباح، ثم انصرفت بها فكانت تقول وهي سائرة: نساء مع رجال راقصات، رجال مع نساء راقصون، راقصات راقصون راقصات. فقلت فاعلات فاعلون، فاعلون فاعلات! قالت الرجال و النساء و البنون و البنات. كيف، متى، أين؟ [الساق على الساق، ص223]. أرأيت كيف يتحدث وينهي حديثه عن الرقص، إنه رقص وزيادة. وهذا هو الفن الكامل – تبحر كثيراً في هذا الكلام لتفهم قليلاً، أو كلف أحد العارفين بشرحه لك، وإلا فيا ضياع تعبي.
أحمد الهجّاء:
ما أحلى ترديد ما قاله لامرتين حين قرأ ((الشاتيمان)) لفكتور هيجو، ثلاثة آلاف بيت كل سب، هذا كثير. ونحن نقول: إن حملة الفارياق على أخصامه عنيفة جداً، ولكن الرجل خُلق هجاء، و الهجاء يدل كثيراً على الشاعر وهذا ما حملنا على خص هجاء أحمد بهذه الكلمة. الرجل سباب شتام حين يهجو، قلما يهزأ ويتهكم، يهاجم الخصم فيكسره شر كسرة. لا حيلة ولا هوادة في الأمر. الحرب الكلامية عنده تطول، دائماً المعركة فاصلة. وما تخيلناه من تقلب طباعه يدلنا عليه تبادل الهجاء بينه وبين أديب إسحق، الكاتب الذي نوه به أحمد. ثم قال يهجوه:
لو أن آدم عالم في أنه ستكون من أبنائه فيما غب
لأباح حوا بالطلاق ثلاثة وأبى لأجلك أن يكون أبا البشر
فأجاب أديب:
عجباً هجوت وكنت قبلا مادحي لا بدع قبلي قد خدعت محمدا
ومكرت في عيسى وخنت أباك في لقب أخذت ولم يكن لك أحمدا
وظهرت في ذلك الزمان جريدة برجيس باريس فناوأته وتحدته فاسمع كيف يهجو صاحبها:
إذا البرجيس فاه سددت أنفي فإن بنتنه تعجيل حتفي
فما لعلاج ذاك الفتح منه سوى سد، وبعض القول يكفي
صنان تشمئز النفس منه ويمنى كل ذي أنف برعف
وقال يهجو زميله المعلم بطرس البستاني، المشهور بفضله وعلمه:
كابدت من زمني كوارث جمة وأمرها في مرها ثنتان
لغة (الجنان) إذا هذت في مدح قا رئ لغوها و (سياحة البستاني)
¥