لم يفت الأسر من عضده؛ بل وقف شامخا: فيفرح وهو محزون، ويضحك وهو مأسور .. دمعه من خصائصه الكبرُ، دمعٌ -دوما- في الحوادث غالٍ ..
لم توهن السيوف والرماح قواه، بل ألِفها حتى أنه استضافها بين أضلاعه وأي استضافة! .. لك أن تتخيل أن نصل رمح عبر جسده فمكث عامين ونصف العام فلما خرج منه بعد مشقة قال: "تأمل الصور البيانية بمدلولاتها: حقا لا مجاز فيها ":
ولا تصفنّ الحرب عندي فإنها ... طعامي مذ بعتُ الصبا وشرابي
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي ... وشقَّقَ عن زُرق النصول إيهابي!
ولججتُ في حلو الزمان ومُرِّه ... وأنفقت من عمري بغير حساب ِ!
فيا لَلبدن الجواد!
نقطة ضعفه الوحيدة: فراق الحبيبة في منبج!
لولا العجوز بمنبج ... ما خفتُ أسباب المنية!
ولكان لي عما سألت من الفدا نفسٌ أبية!
فيها التقى والدين مجموعان في نفس زكية
يا أمتا لا تحزني .. وثقي بفضل الله فيّه
أوصيك بالصبر الجميل .. فإنه خير الوصيّة!
و للصبر مع أبي فراس حكايات! ممتدة بامتداد إبائه .. تستحق أن يخصص لها الباحثون دراسة خاصة .. ولو قلَّبْتَ ديوانه لوجدتَ شفرة مكررة في صفحاته هي كلمة "الصبر " وغالبا ما جاءت: الصبر الجميل!
خارطة هذا النص تؤدي إلى: تفهمٍ عقلاني لطبيعة الأصدقاء، وإلى تقبلٍ روحاني لتصاريف القضاء ..
القصيدة "الراية":
مُصابي جليلٌ , والعزاء جميل ُ ... وظني بأن اللهَ سوف يُديل ُ
جِراحٌ، وأسْرٌ , واشتياقٌ, وغربةٌ! .. أُحَمَّلُ؟! إنّي بعدها: لَحمول ُ!
القصيدة كلها محض عزاء جميل يعزي به نفسه ويسليها ..
يقينه بقرب مولاه عز وجل صهوة هذا العزاء ..
المطلع: راية بيضاء .. يعترف فيها بالضعف – كل الضعف – أمام قسوة الحياة , وتحديات التجارب ,
راية بيضاء: يسلّم فيها بقوة الجراح المتنوعة ويفاوضها ..
راية ٌ بيضاء: لا يرفعها إلا أمام ذاته ومساءً، حتى إذا تنفّس الصبح طواها تحت وسادته ونهض على جراحه ودموعه إلى أن "يضويه الليل " فيبسطها كرةً أخرى:
وإنِّي َ, في هذا الصباح , لصالحٌ؛ ... ولكنَّ خَطْبي َ في الظلامِ جليلُ!!
جمل مركزةٌ قصيرة؛ حيث أن أنينه قصير المدى غير متفجعٍ ولا نوّاح ..
وبيان شعري بإضاءة تصويرية خافتة؛ حيث أن التصوير واقعي ّ ٌ ليلي ّ ,
لا أعرف لمَ كثُرت الفواصل بين كلمات هذه القصيدة؟ هل شعر النُسَّاخ بآهته وهو يتوقف ليلتقط أنفاسه؟ أم تسرّب الأنين إليهم فالتقطوا بين الكلمات دمعاتهم؟
وما نال مني الأسرُ ما تريانهُ, ... ولكنني دامي الجراح، عليل ُ
جراحٌ تحاماها الأساةُ؛ مخوفة، .. وسُقمان: بادٍ، منهما، ودخيلُ
الراية البيضاء: ليست للعدو ..
أمام الجراح .. الظاهرة والدفينة .. والموجعات الجسدية والمعنوية .. وليس منها في الأسر القاسي إلا فراق الأحباب:
وأسرٌ أُقاسيه , وليلٌ نجومه ... أرى كلَّ شيء , غيرهنّ , يزولُ
تطولُ بي الساعات , وهي قصيرةٌ ... وفي كل دهر- لا يسرك – طولُ!
يشعر براحة البوح قليلا، ويهدأ، فيحدد أسباب الوجع، ويعدد أوصاف التعب ..
ثم يدلي بنصائحه ومشوراته، لتكون خارطة طريق للتعايش السلمي مع تقلبات الحياة بأقل صدمات ممكنة ,
مع الصبر على نكوص الأصدقاء وتخاذل الإخوة , يرسمها بعصارة تجربته لنتعلَّم مما تعلَّم، فلا نتألَّم كما تألَّم:
تناساني الأصحاب، إلا عُصيبة ٌ ... ستلحق بالأخرى، غدا، وتحول ُ
ومن ذا الذي يبقى على العهد؟ إنهم ... وإن كثرت دعواهم ُ، لقليلُ
أُقلِّب ُ طرفي، لا أرى غير صاحبٍ، ... يميلُ مع النعماء، حيث تميلُ
وصرنا نرى أن المُتاركَ محسنٌ, ... وأنَّ صديقا- لا يضرُّ – خليلُ!!!!
وليس زماني غادرٌ بي وحده .. ولا صاحبي، دون الرجال، ملولُ!
تصفحتُ أقوال الرجال فلم يكن ... إلى غير شاك ٍ في الزمان وصولُ!
فكل خليل –هكذا- غير منصفٍ ... وكل زمان بالكرام بخيل ُ!!!
فيا حسرتي! من لي بخلٍّ موافقٍ ... أقول بشجوي، مرة، ويقولُ؟!
لله أنت أبا فراس!
قبل أن ينتقل أبو فراس للجزء الآخر من خارطته عرّج به الشجن على نقطة ضعفه، وبؤرة نزفه:
وإنّ وراء السترِ، أُمَّاً بكاؤها ... عليَّ، وإن طال الزمان، طويلُ
فيا أمَّتا، لا تعدمي الصبر؛ إنه ... إلى الخير والنجح القريب رسولُ
ويا أُمَّتا، لا تحبطي الأجر! إنه ... على قدَرِ الصبر الجميل:جزيل ُ
¥