تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي عام 672 هـ أرسل السلطان المملوكي قلاوون أموالاً فبنيت القبة فوق الحجرة الشريفة لأول مرة. وعندما سقطت الخلافة العباسية في بغداد أصبح ارتباط إمارة المدينة بالسلطان المملوكي في القاهرة أكبر وصارت مراسيم التولية والعزل تصدر منه. وكان السلاطين يحترمون أمراء المدينة بسبب نسبهم الهاشمي ويحصرون الإمارة في الأسرة التي تتولاها .. وعندما تتفق الأسرة على تولية شخص معين أو عزله وتكتب بذلك محضراً للسلطان فيوافق السلطان عليه ويرسل مرسوماً بذلك.

وفي سنة 664 هـ أقر السلطان بيبرس جماز بن شيحة وابن أخيه مالك بن منيف بن شيحة أميرين بالشراكة ونتج عن ذلك خلاف شديد بين الأميرين حشدت له الرجال، وجاء جيش من مكة ليعضد جمازاً ولكنه عاد دون نتيجة. وأخيراً تنازل مالك طوعاً عن الإمارة لعمه. وتعد إمارة جماز بن شيحة على المدينة منذ أن شارك ابن أخيه مالك بن منيف حتى تنازله لابنه منصور عام 700 نموذجاً لحالات الصراع على الإمارة داخل الأسرة الواحدة، والصراع على النفوذ والسلطة مع أبناء العم حكام مكة والحسنيين. فعندما انتهى صراع جماز مع ابن أخيه وتسلم الإمارة وحده أكثر من ربع قرن شارك في الصراع القائم بين أمراء مكة وهم من آل قتادة الحسنيين، وانحاز إلى فريق ضد الفريق الآخر، فخرج مع حملة من أهل المدينة ليناصر غانم بن إدريس ضد أبي نمي فأخرجه منها سنة 669 هـ واحتل مكة أربعين يوماً ثم كر عليه أبو نمي فأخرجه منها. وعاد بحملة أخرى عام 673 هـ فصالحه أبو نمي مقابل مبلغ من المال.

وعاد مرة ثالثة عام 673 هـ مع أمير ينبع لقتال أبي نمي وهزم، وعقد صلحاً مع أبي نمي. وهذا نموذج للاضطراب وسوء العلاقات السياسية ولكن جماز بن شيحة نجح بعد ذلك في إقامة علاقات حسنة مع أمير مكة والسلطان المملوكي قلاوون، و استطاع أن يثبت الأمن والاستقرار في المدينة حتى نهاية إمارته عام 700 هـ. وتكررت هذه الصورة للحياة السياسية في السنوات اللاحقة حيث ينجح أمير المدينة في تثبيت الأمن والاستقرار مدة من الزمن ثم ينشغل بصراعات مع بعض إخوته أو أقاربه الطامعين في الإمارة وقد يستعين المنافس بقبائل خارج المدينة أو بأمراء مكة وينبع فتتحول الخصومة إلى صدام تتأذى به المدينة حتى يُقضى على أحد الخصمين بشكل ما. فقد حدثت هذه الوقائع في عهد منصور بن جماز الذي امتدت إمارته ربع قرن من 700 ـ إلى 725 هـ، بدأ العهد بفترة استقرار مدتها تسع سنوات ثم تلتها فترة اضطرابات بسببها طمع طفيل شقيق منصور في الإمارة، فرحل إلى القاهرة واستصدر مرسوماً يقضي باشتراكه في الحكم وعاد إلى المدينة ومنصور غائب عنها فهاجمها برجاله وفشل في اقتحامها بسبب مقاومة كبيش بن منصور وخسر حياته، وثأر ماجد بن طفيل لمقتل أبيه واستعان بأمير ينبع فأمده بالمال والرجال، وهاجم المدينة عدة مرات دون جدوى حتى عام 717 هـ حيث دارت معركة عند جبل سلع قتل فيها ماجد واستراحت المدينة من فتنته، لكن أقرباءه استطاعوا الثأر له عام 725 هـ ففاجأوا الأمير منصور وهو في عدد قليل من رجاله وقتلوه وتولى ابنه كبيش الإمارة واستمر مسلسل الثأر والانتقام من الطرفين فقتل كبيش قتلة أبيه ثم دفع حياته ثمناً لذلك عام 728 هـ.

مقابل ذلك كانت المدينة تعيش في هدوء وطمأنينة عدة سنوات، عندما يحسن الأمير تسيير الأمور بحكمة وعدل، ويحسن العلاقة مع أفراد أسرته وأبناء عمومته والقبائل المحيطة بالمدينة فتزدهر الحياة الاقتصادية وتكثر القوافل التجارية وقوافل الزائرين الوافدة، ويشتغل الكثيرون بالعلم في حلقات المسجد النبوي وفي الأربطة والمدارس التي بدأت تظهر ويزداد عددها. ومثال ذلك الفترة التي مرت بها المدينة في إمارة عطية بن منصور سنة 760 إلى 773 هـ وكانت المدينة قبل إمارته قد تعبت من كثرة الاضطرابات السياسية واستمر الصراع على الإمارة بين بعض المتنافسين عليها من آل المهنا، وعندما قتل الأمير جماز غيلة اجتمع كبار آل المهنا وتداولوا فيمن يتولى الإمارة، فاستقر الرأي على عطية بن منصور الذي عرف بتدينه وزهده وحسن خلقه، ولم يكن معهم في الاجتماع فكتبوا بذلك محضراً للسلطان المملوكي حمله أحد أفراد الأسرة، وعاد بالمرسوم بعد شهر وتسلم عطية الإمارة بعد تردد.

ويذكر المؤرخون أن المدينة عاشت ثلاث عشرة سنة في أحسن حال بسبب حسن سياسته، وكرم أخلاقه، وزهده في المكاسب الدنيوية، واهتمامه بشؤون الناس، وقد أسقط الضرائب التي فرضها أسلافه على أهل المدينة، والوافدين إليها، والتجار والمزارعين، وطلب معونة من السلطان المملوكي لتغطية نفقات الإمارة، فاستجاب له السلطان، واهتم بدروس العلم في المسجد النبوي وقرر دروساً في المذاهب الأربعة، وأجرى للمدرسين والقرّاء رواتب مناسبة، وأعطى الفقراء ما كان يرد لهم، وعاش هو وأسرته حياة زهد وتقشف فينفق عليهم من ماله الخاص، ويضيف المؤرخون أنه صلح بصلاحه أقاربه ومساعدوه، ونَعِمَ أهل المدينة بالأمن والعدل والخصب.

وبعد موت عطية عام 773 هـ عاد الصراع ثانية بين أفراد الأسرة، وأججه تعجل السلطان المملوكي بإصدار مرسوم تعيين الأمير من غير أن يكون أهلاً لذلك، ملتفتاً إلى الوساطات والهدايا معرضاً عن رأي الأسرة لأخذ رأيها فيمن يصلح للإمارة، فيوسد الأمر لغير أهله وتقع الفتن والاضطرابات بين المتنافسين. فقد وفد جماز بن هبة بن جماز على السلطان، ونجح في استصدار مرسوم بتوليه الإمارة، وكان عطية قد أناب عنه أخاه نعير بن منصور، فحاول مقاومته، ونشب قتال بين الفريقين، وقتل نعير وتولى جماز الإمارة، ودخل مرحلة صراع جديدة، واستطاع خصمه ثابت بن نعير أن يستصدر مرسوماً ليعزله. فتحول إلى خصم عنيد لثابت ورحل إلى منطقة خارج المدينة، فتحصن بها، وأخذ يغير منها على المدينة في محاولة لاستعادة الإمارة، والانتقام من ثابت. وقبض عليه بأمر السلطان، وسجن في مصر سبع سنوات ثم أطلق سراحه، وأعيد إلى الإمارة فحسنت سيرته أول الأمر، ولكنها ساءت بعد حين عندما قلّت موارده المالية. وأصدر السلطان المملوكي مرسوماً بعزله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير