تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأوروبية من أفواه الأوروبيين أنفسهم ونقرأ في بعض مصنفاتهم التي تتحرى موضوعية البحث والصدق التاريخي عن النبض الحضاري العربي في قلب الحضارة الغربية، في حين نسمع من أفواه عربية ونقرأ أوراقا عربية صفراء عن التخلف والجهل العربيين، وكأن صدى بل صديد نظرية العرق لدى (هيبولت تين) يملأ أسماعهم ويلوث وجدانهم.

وكما يقول د. محي الدين صابر فان اللغة العربية أصبحت " لعدة قرون في التاريخ الوسيط هي اللغة العالمية الأولى لغة الفكر والعلم والاقتصاد، وحرّر الحرف العربي عشرات اللغات غير المكتوبة وأدخلها عالم التدوين، وتعايشت الثقافة العربية الإسلامية مع ثقافات الشعوب التي ارتبطت معها بالعقيدة ولم تحاول طمسها أو استلابها، ولكنها تعاملت معها أخذا وعطاء فأغنتها واعتنت بها وقبلت دون تحيّز ولا تمييز من استطاع أن يضيف إلي قدرتها بل إنها كرمت ذلك وشجعت عليه " (35)

إن العلاقة بين قوة اللغة وقوة أبنائها علاقة جدلية، فحينما كانت الأمة العربية تقود موكب النفوذ السياسي الذي هز عروش امبروطوريات عديدة وكانت علومها منارة تهتدي بها الشعوب الأخرى وكان فكرها نبراسا يضيء عقول الآخرين، كانت اللغة العربية تعتلي عرشها فيفاخر بها أبناؤها ويقبل على تعلمها غير أبنائها ولكن حينما أسقط القرار السياسي من أيدي العرب وأصبحوا لا يملكون إلا الدوران في فلك الآخرين أصبحت اللغة عبئا على أبنائها وهدفا سائغا لطغيان اللغات الأخرى وبخاصة الانجليزية ومن المفيد أن نستحضر ما قاله كمال بشر: " كلّما حرَص أهلها على إمدادها بالزاد، وكلما ماجت البيئة المعيّنة بالنشاط العلمي والثقافي، نهضت اللغة، استجابت لهذا النشاط، وأخذت في استغلال طاقتها، وتنمية ثروتها، وتعميق جوانبها. ومن ثمَّ تستطيع أن تُمِدّ هؤلاء وأولئك بطِلْبَتهم من الوسائل اللغوية اللازمة للتعبير عن علومهم وفنونهم، وكلما جَمُد التفكير العلمي وتخلّف النشاط الثقافي ظلّت اللغة في موقعها جامدة، ولا تبدي حراكا ولا تقدِّم زادا؛ لأنّها بذلك قد فقدت عوامل النمو، وحُرمت من عناصر النضج الفني " (36) ولا يعقل أن نكسر مرآة لأن الصور التي تعكسها مشوهة أو قبيحة ونهرع إلى مرايا الآخرين لجمال ما تعكسه من صور لأن التشويه من تقصيرنا والقبح من عقوقنا للغتنا، أما إذا هرعنا إلى مرايا الآخرين فلن نرى صورتنا بل سنرى مسخا مشوها لان لغة الآخرين لا تعكس شخصية الأنا. فاللغة "منزل الكائن البشري، ومرآة فكره، يلجأ إليها لتأكيد وجوده، وينطلق بها لتحقيق رغباته، ولكنّ المنازل تغنى بسكانها، والمرايا تصفو وتجمل بالعيون الناظرة إليها، والوجوه المصورة عليها، فإذا هاجر السكان، أو ماتوا، خلت المنازل، وافتقر غناها، فهم روحها التي بها تحيا" (37)

ولا تهزم لغة إذا انتصر أهلها، إذ إن عوامل الهزيمة أو الفناء لا تكمن في جينات اللغة، وقد يحدث تطور دلالي لحزمة من الألفاظ وقد تموت بعض الألفاظ لأسباب اجتماعية وتحيا ألفاظ أخرى تقتضيها مستجدات فكرية أو اجتماعية، أما أن تعطل لغة ما وتسلب من مقوماتها بسبب العامل الزمني وما يرافقه من تقدم علمي وتقني فهذا أمر لا ينسجم مع حقيقة التطور لان " اللغة لا تحيا ولا تموت بنفسها، وإنما يلحقها هذا الوجه أو ذاك بحسب الظروف والملابسات التي تحيط بها، فإن كانت الظروف فاعلة غنية بالنشاط العلمي والثقافي والفكري، كان للغة استجابتها الفورية ورد فعلها القوي تعبيراً عن هذه الظروف وأمارة ما يموج به المجتمع من ألوان النشاط الإنساني، وإن حرمت اللغة من هذا التفاعل ظلت على حالها وقدمت للجاهلين فرصة وصمها بالتخلف والجمود، في حين أن قومها هم الجامدون المتخلفون" (38) وإذا كان الواقفون في الاتجاه المعاكس للتيار اللغوي القومي لا يحسنون الاستماع إلى شهادة الأنا والى صوت الثقافة القومية ظنا منهم أن الأنا لا يصدر منها إلا التعصب فليستمعوا إلى (جورج فاندريس) بقوله: (إننا لا نعلم إطلاقاً لغة قصرت عن خدمة إنسان عنده فكرة يريد التعبير عنها، فلا ننصت إلى أولئك المؤلفين العاجزين الذين يحمّلون لغاتهم مسؤولية النقص الذي في مؤلفاتهم لأنهم هم المسؤولون، على وجه العموم عن هذا النقص) (39)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير