تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن واقع اللغة يصطبغ بتجليات الصراع بين الأنا والآخر فحينما يضعف الإحساس بالأنا أمام تحديات الآخر فان الضعف يتسرب إلى اللغة إذ لا يمكن الجمع بين التنازل عن الهوية اللغوية واحترام الذات ولهذا فان العامل الحاسم بل العامل الوحيد في تحديد الانتماء القومي هو اللغة " فاللغة العربية مرتبطة ارتباطاً مصيرياً وحتمياً بأبنائها. فعندما كان العرب في عصورهم الذهبية، أغنت اللغة العربية العالم بالعلوم والمعارف، وأثبتت قدرتها على الانتشار والتوسع والاستيعاب والتواصل الفكري الإنساني. ولكنّ الفرد العربيّ يعيش اليوم أزمة هروب من الذات، وينغمس في حالة تغريب عن أصالته ووجوده، فانعكست الأزمة سلباً على الواقع اللغوي، ووصمت اللغة بالعجز والقصور عن مواكبة التطور العلميّ والحضاري" (40) "

ولو تأملنا صفحة مشرقة من أسفار أمجاد العرب المسلمين في أندلس الأمس لتجسدت لدينا العلاقة الجدلية بين اللغة وأبنائها، فحينما كان العرب يملكون زمام السياسة انقادت لهم الأمم، وحينما كان العقل العربي ينتج أشكال العلوم الإنسانية والتطبيقية كانت حواضر الأندلس منهلا ثقافيا يتوارد عليه الأوروبيون وقد كتب احد أساقفة قرطبة يقول:" كثيرون من أبناء ديني يقرؤون أشعار العرب وأساطيرهم، ويدرسون ما كتبه علماء الدين وفلاسفة المسلمين، لا ليخرجوا عن دينهم، وإنما ليتعلموا كيف يكتبون اللغة العربية مستخدمين الأساليب البلاغية. أين نجد اليوم مسيحّياً عادياً يقرأ النصوص المقدسة باللغة اللاتينية؟ إن كلّ الشباب النابه منصرف الآن إلى تعلم اللغة والأدب العربيين، فهم يقرؤون ويدرسون بحماسة بالغة الكتّب العربية، ويدفعون أموالهم في اقتناء المكتبات ويتحدّثون في كل مكان بأن الأدب العربي جدير بالدراسة والاهتمام. وإذا حدَّثهم أحد عن الكتب المسيحية أجابوه بلا اكتراث: (بأنّ هذه الكتب تافهة لا تستحق اهتمامهم). يا للهول! لقد نسي المسيحيون حتى لغتهم، ولن تجد بين الألف منهم واحداً يستطيع كتابة خطاب باللغة اللاتينية، بينما تجد بينهم عدداً كبيراً لا يحصى يتكلّم العربية بطلاقة ويقرض الشعر أحسن من العرب أنفسهم " (41)

أما معاينة اللغة العربية من منظور الآخر ففيها مفارقة، فقد أثنى بعض المفكرين الغربيين على اللغة العربية وخلعوا عليها أوصافا في حين بخل بعض أصحابها عن وصفها كما وصفها الآخرون. ولا ريب أن الدرس الموضوعي للغة العربية قادهم إلى الثناء عليها، فقد ابدوا إعجابهم بظاهرة الفروق اللغوية الدقيقة (الترادف) كما في قول نولدكه: " إنه لا بد من أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات العربية، عندما يعرف أن علاقات المعيشة لدى العرب بسيطة جدا. وبلدهم ذو شكل واحد، ولكنهم داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصة (42) ونوه جورج سارنوت إلى اثر القران الكريم على اللغة العربية بقوله: " ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، ............. وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد" (43)

وعبر ارنست رينان عن إعجابه بالانتشار الجغرافي للغة العربية بقوله: " من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى ... " (44) وعن هذا الموضوع يقول الدكتور شرباطوف (أكبر المستشرقين الروس): (ولقد أظهرت اللغة العربية قوتها في القرون الماضية، وتستطيع هذه اللغة اليوم بفضل ثراء أصلها التاريخي، ولما اكتسبته من الظواهر الجديدة مثل كثرة المصطلحات العلمية والفنية الجديدة أن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير