تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إننا نلاحظ – نهاية الأمر- أن التفسير والتأويل، قراءتان للنص القرآني، تلتزم الأولى بالمأثور من القول، وتذهب الثانية إلى ترجيح الاحتمالات وفق فهم خاص، صنعته أفكار سابقة، واتجاهات فكرية وسياسية معينة، تجعل الفكرة أولا والنص تاليا. تتحايل عليه من خلال طرق الاستنباط والاستدلال، لتنتهي به إلى نتيجة معدة سلفا/ ما كان للنص أن يحملها لولا تلك "النية" وذلك "التوجه" والقناعة.

4 - القرآن والترجمة:

هناك حقيقة أخرى تتصل بالقرآن الكريم في معماريتيه الكلية. ذلك أن النص القرآني يقوم على ثلاثة طبقات متراقيات: طبقة أولى تتصل بذات الله عز وجل، يتحدث فيها عن ملكوته وعلمه، وإرادته، وقدرته، مستعملا عين اللغة التي يتحدث بها البشر. بيد أن مراده من دلالاتها يخرج عن نطاق الاقتدار البشري فيما يدركون ويتصورون. وهي الطبقة التي إن دخلها العقل محاولا تصور الحدود والكيفيات ضل ضلالا بعيدا، وعادت عليه محاولاته بالباطل. وليس أمامه إلا التسليم والتصديق، والإيمان بما أخبر. وقد تولى الله عز وجل الإخبار عنها بما يكفي الذات المؤمنة من خبر. وقد سجل الفكر الإسلامي زوغان المحاولات التي رامت إدخال العقل في مجال هذه الطبقة، وكيف انقلب الفهم إلى نفي الصفات، أو إلى التجسيم الباهت الساذج.

إن لغة النص القرآن في هذه الطبقة، لا تتعامل مع المفاهيم بنفس الطريقة التي تتعامل معها في الحديث البشري العادي. ذلك أنها لاتعترف بالزمان والمكان على النحو الذي يدركه الناس في تعاملهم مع الزمان الخاضع للتوالي والتعاقب، ولا مع المكان الخاضع للامتداد الحدود. فالزمان بالنسبة لله عز وجل حدث وانتهى، أي أنه يعلم مبتداه ومنتهاه، وقد جرى القلم بتسجيل أحداثه دقيقها وجليلها، ماضيها ومستقبلها وحاضرها. فالأزمنة اللغوية تفقد دلالتها النحوية إذا ما دخلت مجال هذه الطبقة فقدانا كليا. وكل ترجمة لا تلتفت إلى هذه الحقيقة، ستفوت على نفسها إدراك حقيقة اللغة أولا، وحقيقة المراد الإلهي ثانيا. بل قصارها أن تلتزم ما قاله المفسرون في هذا المقام، تستعين به على الترجمة الصحيحة للنص.

أما الطبقة الثانية: فإن مجالها بشري، ولكنها على الرغم من البشرية تظل بعيدة عن العقل وأحكامه وموازينه المشروطة بالزمان والمكان والفهم المتاح. وهي الطبقة التي تولت بيان الأحكام المتعلقة بالعبادات وكيفياتها. فاللغة فيها عين اللغة التي تجري على ألسنة المتحدثين، ولكنها تلتمس من الطبقة الأولى خصوصية انتمائها إلى إرادة الله في الصيغ التعبدية التي يتقرب بها عباده منه. قد يحاول العقل –إن اجتهد- أن يجد لها معان تسمح له بفهم أعمق لحقيقة العبادات ومغازيها. ولكنها تظل مجرد اجتهادات قد تجد من يأخذ بها ويستحسنها وقد تجد من يستهجنها. وليس من سبيل أمام الترجمة إلا الأخذ بما جاء فيها على وجه الظاهر، دون أن تتأول شيئا منها. بل لا يحق لها أن تخط خطا من دون العودة إلى أهل التفسير للتأكد من المراد بها لغة واصطلاحا. فالمترجم مرهون بالتفسير يتأكد من خلاله من المراد الصحيح للآيات، قبل المبادرة إلى النقل في اللغة الثانية. فالترجمة إذن ترجمة لتفسير، وليست ترجمة للنص المقدس. وإذا كان الأمر كذلك توجب على المترجم أن يحدد نوع التفسير الذي يستقي منه مادته. لأن التفاسير مثلما شهدنا تخضع هي الأخرى لاتجاهات الفكر الذي يؤطر إدراكها وتصورها للمعاني.

أما الطبقة الثالثة، فهي الطبقة التي تتصل بحاضر الناس ومعاشهم، وهو المجال الذي تتحرك فيه اللغة على أعراف العادة والاستعمال البشري. وهي بذلك تفتح أمام العقل رحابة التفسير والتأويل وفق الشروط التي ذكرناها من قبل. فإذا قارنا بين الطبقات من حيث السعة والشمول ألفيا أن المجال الذي يتحرك فيه العقل أدنى المجالات. بيد أن إعجاز هذه الطبقة –على الرغم من انحصارها- تظل مفتوحة على البحث والاستكشاف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهي خير دليل على ضآلة هذه الأداة التي يعتد بها الإنسان، والتي هي دوما عرضة للانزلاق وراء ركوب غرور الإحاطة في الفهم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير