ـ[أما وقد وصل الشيخ - وفقه الله - إلينا فلا بد أن أقول مافي نفسي حول مصطلح (المتقدمين والمتأخرين) وكنت كتبته سابقاً، فآمل القرآة بتركيز حفظ الله الجميع:. . أرى والله أعلم أن مسائل المصطلح لم تتغير على مر السنين وهي مبثوثة والحمد لله في مصنفات أهل العلم عبر القرون، ولازال كل عصر يخرج لنا من تصفونهم أنتم بأنهم على منهج المتقدمين، أما أنا فلا أقول بهذا المصطلح، لأني إن قلت به فيلزمني كذلك القول به في بقية علوم أهل الإسلام - لا علوم أهل الكلام - إذاً ما الذي يحدث، فالواقع أننا نرى انحرافاً عن المنهج الصحيح في تصحيح الأحاديث وتضعيفها؟ ]ـ
ـ[الجواب والله أعلم - والكلام ما زال للسائل - ذو شقين: ]ـ
ـ[1 - قد يجتهد أحد العلماء في تتبع مسائل المصطلح والنظر فيها وتأمل كلام الأئمة الأوائل واقتفاء آثارهم في الجانب النظري، ثم إذا جاء الى التخريج والتطبيق فقد ينشط وقد يضعف، وهذا الأمر له أسباب كثيرة جداً، ولعل من أبرزها: الرغبة في كثرة المؤلفات - الرغبة في البروز على حساب حديث نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا إن كان قليلاً في السابقين فهو في وقتنا كثير نوعًا ما - إلى غير ذلك من الأسباب كالمرض والضعف وقلة المراجع ..... الخ. . . وأنت لو سألت هؤلاء عن المسألة الاصطلاحية هل قمت بمراجعتها في الكتب المعتمدة في المصطلح؟ لأجاب بالنفي، ولقال لك: الحقيقة أنني خريج كتب التخريج. . . فمثلا: مسألة زيادة الثقة .... هذه المسألة لا زالت كتب المصطلح تتناقل أن القول الصحيح أنه لابد من تتبع القرائن ثم الحكم على ضوء ذلك، فالقول الصحيح مبثوث في الكتب .... وهذا الكلام يقال في جميع فنون العلم كذلك]ـ
ـ[2 - يجب أن نسعى جاهدين لتقرير مسائل المصطلح من طريقين:. . أ- بيان طريقة الأئمة في كل أبواب المصطلح دون أن ندعي منهجاً للمتقدمين، باعتبار أن هذا المنهج موجود يصيبه من بحث عنه شأنه شأن بقية العلوم، وأن الذي ينبغي أحياؤه هو: روح المحدث الباحث عن الصواب ... ومن هنا ينبغي أن نحذر من إحياء مسألة المتقدمين والمتأخرين دون إحياء روح البحث والهمة في تتبع الطرق والروايات فنقع فيما نقدنا الناس فيه، فطالب علم الحديث ينبغي أن يتقرر لديه أنه يصحح أو يضعف كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يخلع من رأسه كل غرض دنيوي، فالتجارة ليس هذا أحد ميادينها. . . ب - التطبيق العملي المرافق للدراسة النظرية، وهنا ينبغي دراسة الأمثلة الصحيحة والواضحة، مع تربية الطالب على احترام وتقدير أقوال أئمة هذا الفن، مع كشف حال من يدعي من المحققين المعاصرين أنه وقف على طريق أو شاهد لم يقف عليه أئمة هذا الفن. . . والخلاصة - عندي - أن من اجتهد في مسألة المتقدمين والمتأخرين لم يصب، العنوان الصحيح: وهو: ضرورة بذل الوسع والجهد في التصحيح والتضعيف، مع عدم إغفال كلام نقاد الحديث المعتبرين ... والله أعلم. ]ـ
أقول (وبالله التوفيق):
جزاك الله خيرا أخي، وكلامك جميل، وقرأته بتركيز أكثر من مرة حتى أقف على الخيوط التي تربط أول الكلام بآخره، لكني فشلت في ذلك، وعلى كل ففيه من الملحوظات ما يأتي:
أولا: مسائل المصطلح لم تكن كما قلتَ؛ بل إنها تغيرت، مثل بقية علوم الشريعة، بل إن اللغة العربية لم تكن الآن مثل ما هي في العصور السابقة، حتى أصبحت لغة القرآن غير معروفة الآن، لذا كان الناس يحتاجون في معرفة خصائصها إلى معاجم اللغة وكتب التفاسير. إن اللغة لا سيما المصطلحات العلمية كانت تتبدل وتتغير وتتوسع حسب
الظروف العلمية التي تمر عليها؛ لذا لا ينبغي تفسير شئ منها بما استقر عليه الآن من المفاهيم والمعاني دون مراعاة أسلوب القدامى في استخدام تلك الكلمات، ودون تأمل في تاريخ دلالتها اللغوية.
وذلك واضح جدا من خلال نظرة سريعة في مصطلحات العلوم، وقد شرح ذلك
بشئ من التفصيل محققو علمائنا السابقين. على سبيل المثال مصطلح التوسل والوسيلة، إذ يفسر الآن هذا المصطلح بما هو غير مألوف في العصور الأولى. انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته القيمة في التوسل.
وكذلك مصطلح (الفقيه) يتداول الآن بحيث يضيق معناه الذي وسع فيه القدامى، وكيف يفسر الفقه الذي جاء في حديث (من يرد الله خيرا يفقهه في الدين)، وما المقصود بالفقه هنا في هذا الحديث؟ هل يعني أنه عالم في فقه العبادات والمعاملات كما هو المتبادر الآن في الأذهان؟ أو عالم في أمور الدين كلها؛ كالسلوك والعقيدة والشريعة؟
ونرى ذلك التفاوت أيضا في مصطلح (النية) الذي أصبح الآن مصطلحا فقهيا، يتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ما هو أخص من الإخلاص الذي كان هو المقصود بالنية في العصور الأولى.
هذه الأمثلة ذكرتهاكنماذج على وجه السرعة. أما في كتب المصطلح فآثار التغيير ملموسة عند من يملك منهجا سليما في فهم النصوص. من تلك الآثار إطلاق صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، والحاكم، والمسنِد، وغير ذلك مما لن تجد له في نصوص النقاد أثرا.
بل إذا تأملت في كتب المصطلح ترى بأم عينيك أن كثيرا من المصطلحات وتعريفاتها كانت مرتبطة بأحوال الرواة، وبتغيرها تختلف المصطلحات وتعريفاتها، ويشهد على ذلك ما يأتي من المصطلحات وتعريفاتها: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لغيره وحسن لذاته، والشاذ والمنكر، والمحفوظ والمعروف، والحديث المتروك، والحديث الموضوع، وهذه المصطلحات وتعريفاتها قائمة على ربطها بأحوال الراوي، الأمر الذي
أدى إلى فهم كثير من المعاصرين أن التصحيح والتضعيف والتحسين تابع لأحوال الرواة، كما أدى ذلك إلى التباين المنهجي بينهم وبين النقاد القدامى.
أما تصحيح الفقهاء المتأخرين وتضعيفهم للأحاديث فكان على غير نهج المتقدمين النقاد كما صرح بذلك ابن دقيق العيد واللاحقون. وإذا تتبعنا عمل كثير من المتأخرين المحدثين والمعاصرين وجدناهم على منهج الفقهاء.
ومن وقف على هذا الواقع من التباين المنهجي فإنه لا يفسر الصحيح الذي أطلقه الإمام السيوطي مثلا بالمعنى الذي قصده النقاد، ومن لم يقف على ذلك فإنه يكون قد قلب الأمور رأسا على عقب.
ومن أخطر آثار التبديل والتغيير في مسائل المصطلح فصل الإسناد عن المتن في الحكم، في الواقع أن السند لا يحكم عليه بالاتصال أو الانقطاع أو الإرسال أو التدليس أو الصحة أو الضعف أو الحسن إلا في ضوء المتن، وإلا فحكم عام يقوم على ظاهر حال الراوي، والمعاصرة، واللقاء، ولا يكون لذلك صلة بذلك الحديث الذي رواه، وبالتالي لا يفهم من ذلك الحكم أن الراوي سمع هذا الحديث ممن هو فوقه، ولا أنه قد أصاب في روايته، أو أخطأ فيها.
إذن يكون قولك إن مسائل المصطلح لم تتغير تنقصه الدقة في نظري، ولا أعني بذلك إلصاق تهمة التبديل إلى أئمتنا السابقين، إذ أعتقد جازما بأنهم لم يقصروا في جمع ما يتعلق بمنهج النقاد من المسائل، وأضافوا في كتبهم ما استخدموا من المصطلحات، ولم يتركوا شيئا إلا أوردوه فيها، لكن ذلك مبثوث فيها بغير ترتيب، ويحتاج القارئ إلى منهج سليم أساسه المقارنة، وهناك مسائل كثيرة ينبغي تقييدها بما ذكر في مواطن أخرى، وأحسن مثال لذلك مسألة زيادة الثقة، وقد شرحت ذلك في بعض أبحاثي حول زيادة الثقة بعد أن رأينا بعض أفاضل العصر يقول زيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في كتب المصطح، وإن دل هذا على شيئ فإنما يدل على مدى تغير مسائل المصطلح.
ثانيا: الانحراف في التصحيح والتضعيف.
الذين يصححون الأحاديث ويضعفونها بناء على أحوال الرواة يشكل ذلك منهجا مختلفا عمن يصحح ويضعف بناء على مدى موافقة الراوي للواقع الحديثي أو مخالفته له أو تفرده بما له أصل أو بما ليس له أصل، سواء أأطلقنا عليهم مصطلح: المتقدمون والمتأخرون، أم نقاد الحديث وغيرهم، أو غير ذلك؛ فإن التباين المنهجي بين النقاد وغيرهم أمر واقع لا يمكن إنكاره.
ثالثا: مصطلح: المتقدمون والمتأخرون.
هذا مصطلح آثرته لاعتبارات كثيرة؛ من أهمها كونه مألوفا لدى الجميع في جميع انواع العلوم الشرعية، ثم إنه لا مشاحة في الاصطلاح، لذا ينبغي تفسيره بالمعنى الذي بينته في أكثر من موضع من كتبي، وقد صرحت فيها بأني لا أقصد بذلك جميع المتقدمين ولا جميع المتأخرين، وأن الفاصل بينهم ليس زمنيا، وإنما هو منهجي، ولم يكن استثناء الحافظ ابن خزيمة والحافظ ابن حبان والحاكم من منهج النقاد إلا على ذلك الأساس، وأن هذا الاستثناء متفق لدى الجميع، مع بيان تفاوت مراتبهم في التساهل. فمعنى ذلك أنه من الضرورة استثناء كل من يسلك طريقة هؤلاء الحفاظ المعروفين بالتساهل في التصحيح والتضعيف، سواء كان متقدما أو متأخرا، وبأي مصطلح كان ذلك، والمهم هو عدم الخلط بين المناهج المختلفة في التصحيح والتضعيف، وقواعدهما ومعاني المصطلحات المنبثقة عنها.
أما إذا استخدنا مصطلح: (المحدثون والفقهاء) كما يحب بعض الإخوة؛ فإن ذلك يساعد على رسوخ خطأ فادح في نفوس الأجيال، ألا وهو الفصل بين المحدثين والفقهاء، وأن المحدثين ليسوا فقهاء، هذا في الحقيقة نكران التاريخ. ثم إن ذلك يوهم أن المحدثين كانوا جميعا يمارسون النقد، وليس الأمر كذلك. ولم يسبقنا أحد باستخدام هذا المصطلح في المجال الذي نحن بصدده، بينما مصطلح: المتقدمون والمتأخرون قد استخدمه من قبلنا، انظر الحافظ ابن حجر والذهبي والسخاوي وغيرهم ممن أوردنا أسماءهم في كتاب الموازنة.
من المعلوم أن لا مشاحة في الاصطلاح، لذا ينبغي تفسير المصطلح بما اصطلح عليه واضعه.
رابعا: إحياء روح التتبع والبحث.
إذ نطرح هذه المسألة فإننا نهدف إلى إحياء روح التتبع والبحث في التصحيح والتضعيف وإحياء منهج النقاد فيهما حتى يستوعبه الباحثون، إذ النقاد هم المصدر الأصيل في هذين المجالين، أما المتأخرون فهم عالة عليهم فيما يخص الحديث الشريف رواية ونقدا.
وإذا لم يستوعب الباحث منهج النقاد ولم يفهم مصطلحاتهم فما فائدة التتبع والبحث والهمة والنشاط؟ وهو كما قلت أنت إذا سألت أحدهم يقول أنا خريج كتب التخريج، أوليس هذا مما ينبغي علاجه أخي!.