تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونقف أخيراً على كلام لبهاء الدين السبكيّ (ت763هـ) يتضح فيه جلياً أن ما قد يعدُّ ضعيفاً وغير فصيح في الكلام النثريّ قد يعد في الشعر على خلاف ذلك قوياً وفصيحاً. وقد عرض السبكي لهذا الرأي في سياق حديثه عن عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة في مثل "ضرب غلامه زيدا". ويقول: "وقد اختلف في جواز ذلك، فالجمهور على منعه، وجوزه أبو الحسن والطُّوال وابن جني وابن مالك مستدلين بقوله:

جزى ربه عني عدي بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ثم قال: "وأعلم أن المصنف [يعني القزويني] والشراح [يعني شراح التلخيص] قالوا: إنما كان ضعيفاً لأن ذلك ممتنع عند الجمهور، ولا يجتمع القول بضعفه وكونه غير فصيح مع القول بامتناعه، فإن أرادوا أنه جائز ولكنه ضعيف لأن الأكثر على امتناعه ... فلا يلزم من القول بجواز مامنعه الجمهور الاعتراف بضعفه، فربما ذهب ذاهب إلى جواز شيء مع فصاحته مع ذهاب غيره إلى امتناعه ... وعليه اعتراض ثان وهو أن هذا على تقدير جوازه وضعفه ليس مثالاً صحيحا"ً، لأن هذا ليس ضعيفاً في الكلام ... ثم ذلك الضعف ربما كان في النثر دون الشعر، لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز فقد تقوي ما هو ضعيف، فعلى البيانيّ أن يعتبر ذلك، فربما كان الشيء فصيحا في الشعر غير فصيح في النثر"43

ومن الواضح أن السبكيّ مدرك تمام الإدارك أن للكلام مستويين: مستوى نثرياً وآخر شعرياً. ويبدو طريفاً ومقنعاً حِجاجُه المنطقيّ هذا الذي ابتغى من ورائه تقرير أن ما يُحكم عليه بالضعف في الكلام النثري قد ينقلب في الشعر فيغدو قويا، فهذا ينبغي أن يكون مثل جعلهم ما ليس بجائز في الكلام جائزاً في الشعر. وهو ما جرت تسميته "بالضرورة". بيد أن هذا لا يعني البتة أن كل ضعيف في الكلام يقوى إذا هو ورد في الشعر ... وإنما الشأن راجع إلى فحولة الشاعر واقتداره. والسبكيّ كان في الحق دقيقاً ومحتاطاً إذ استعمل في عبارته الأداتين "قد" و"ربما"؛ ليشير بهما إلى أنّ الأمر ليس في مكنة كل من يتعاطى قرض الشعر.

وبالجملة فإن من الممكن القول بعد هذا بأن الضرورة الشعرية هي في كثير من أحوالها خصيصة من خصائص اللغة الشعرية. وعلى ذلك فلا تكون عيباً، بل هي في الغالب مظهر من مظاهر الاقتدار الفني. ولعل هذا قد اتضح من خلال ما سقناه من نصوص لامس فيها أصحابها الفكرة على نحو مباشر أو غير مباشر.


[1]- اقتبست هذه التسمية من فندريس في كتابه: اللغة، تر: عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص مكتبة الأنجلو المصرية 1950، ص182

[2]- فندريس: اللغة ص194 - 195

[3]- كولريدج: النظرية الرومانتيكية في الشعر، سيرة أدبية لكولريدج، تر: عبد الحكيم حسان، ط دار المعارف بمصر 1971، ص302

[4]- المصدر السابق ص303 وقد عبر كروتشه عن مثل ذلك فقال: إن اللغة خلق دائم، فما عبر عنه تعبيراً لغوياً لن يتكرر مطلقاً .. فالانطباعات الدائمة الجدة تفسح المجال لظهور تغييرات مستمرة في الصوت والمعنى .. والبحث عن لغة نمطية هو البحث عن سكون الحركة، ويمزات وبروكس: النقد الأدبي، تر: محيى الدين صبحي، مطبعة جامعة دمشق 1973 - 1976،3/ 738

[5]- الأصفهاني: الأغاني، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، مؤسسة جمال، بيروت د. ت، 4/ 13

[6]- مندور: محمد: في الأدب والنقد، طـ5 دار نهضة مصر د. ت ص11 وهو يشير إلى أن هذا مثل فرنسي.

[7]- المصدر نفسه ص11

[8]- البلاغة، تح: رمضان عبد التواب، ط2 مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة 1985، ص81 وانظر الفراء: معاني، تح: عبد الفتاح شلبي، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972، 3/ 118 وابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، تح: السيد أحمد صقر، ط1 دار الرجاء إحياء الكتب العربية القاهرة 1954 ص154

[9]- انظر: ابن رشيق: العمدة، تح: محمد قرقزان، ط1 دار المعرفة بيروت 1988، ص1020

[10]- انظر: ابن فارس: ذم الخطأ في الشعر، تح: رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي بمصر 1980، ص21 والصاحبي في فقه اللغة، تح: مصطفى الشويمي، مؤسسة بدران، بيروت، 1963، ص276 وابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، ص154.

[11]- الصناعيتن، تح: علي البجاوي وأبو الفضل إبراهيم، ط عيسى البابي الحلبي القاهرة 1952، ص150

[12]- العمدة، ص102

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير