تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فراح يعمل بهمة وتصميم متناسياً الآلام والأوجاع التي تترسب في جميع عضلات جسمه يوماً بعد يوم .. ورغم أنه يشعر بالشوق والحنين إلى أمه وأبيه وإخوته .. وإلى بلده وأصدقائه؛ إلا أنه لم يكن قادراً على إخفاء شعور رائع وغريب يقفز إلى خاطره كلما التقت عيناه بعيني غيوم .. وكلما لاحت له صورتها في الهواء أما ناظريه ...

لقد بدأ يألف المكان بشكل لافت للنظر .. وعبثاً كان يحاول إقناع نفسه أنه لن يبقى على هذه الجزيرة سوى أياماً قليلة ويرحل .. وأنه سينسى غيوم مع الوقت .. وسينسى معها جلال، والسيد كبانجا، وكيكاواتا هذا .. والكوخ الذي على الشاطئ، والدجاجات والمزرعة ..

وستصبح ماضياً بعد حاضر، وستتلاشى مع الزمن كل ذكرى جميلة انطبعت في وجدانه على هذا المكان المعزول من العالم .. وسيعود إلى حياة المدينة والشوارع والسيارات والأجهزة والمصانع .. وسيعود إلى رسوماته ولوحاته وجامعته، وكل شيء جميل هناك عاش وتربى عليه.

إلا أن محاولاته اليائسة تلك كانت تبوء بالفشل في كل مرة في إقناع نفسه .. وكانت طبول الحرب تقرع في صدره بصوت مخيف إيذاناً ببداية صراع محموم داخل أرض نفسه بين الجزيرة والمدينة .. صراع بين الريف والحضارة ..

بين أهله وأصدقائه وبين غيوم ...

بين حياة الترف والعز وبين حياة الفقر والبساطة ...

كل شيء هناك إلا غيوم .... وليس شيء هنا سوى غيوم ..

صراع أفقده توازنه، وبدأ ينمو مع الأيام ويزداد حدة .. كل شيء يميل في نفسه إلى تفضيل الحياة هناك على الحياة هنا، ولم يكن شيء هنا يجرؤ على تعليق نفسه بهذه الجزيرة سواها ..

ورغماً عنه .. ودون أن يدري، استعمرت تلك الفاتنة كل نواحي عقله وتفكيره وملأت الفراغ بينهما ...

* * * * * * * *

إنقضت الأيام الثلاثة وكريم على هذه الحالة من الجهد والعمل المضني

كانت هذه المدة كافية جداً لتغير ملامحه التي جاء بها إلى هنا؛ فقد حلت الخشونة محل النعومة والدعة، وحلت المشاعر الرقيقة والرومانسية في قلبه محل الفراغ الذي كان يملأه من قبل .. حلت تلك الفاتنة محل أهله وأصدقائه ووطنه.

أما غيوم، فقد دبرت خطة جيدة في نقل المحول الكهربائي الثقيل من قسم الشرطة إلى الكوخ المهجور على الشاطئ حيث المسافة هناك أقرب لبث ذبذبة إرسال إلى أي سفينة قد تكون مارة بالجوار صدفة.

استعانت غيوم بعدد من رجال القبيلة – ذوي الوجوه المفزعة – الذين يسكنون الغابة بين القرية والشاطئ، لنقل المحول على ظهور البغال إلى الكوخ في الليل مخافة أن ينفضح الأمر ويراهم أحد من جواسيس جلال.

كانت هذه الخدمة الخطرة بالنسبة لهم؛ يقدمونها عرفاناً مقدساً لابن الحوت هذا متحديين بذلك قوة السلطة العسكرية في يد جلال ورجالاته

أما غيوم فإنها كانت ترتكب حماقة بالغة الخطورة إن اكتشف جلال سرقة المحول من قسم الشرطة، كانت تعلم ذلك جيداً وتدركه .. إلا أن تلبية رغبة كريم في نفسها كانت هي الأقوى وفوق كل اعتبار.

كانت تقدم نوعاً من التضحية يندر أن تقدمه أنثى في وضع حساس كهذا!! وتعلم أن عقوبة هذه الجريمة قد تسمح لجلال بالحصول عليها ولو بالقوة .. كان يمكنه حينها وبكل بساطة أن يجد مبررا لسجنها عنده في القسم .. وهذا يعني من جهة أخرى وكأنها في بيته وقد أصبحت زوجته رغماً عنها!!!!

إنها التضحية بكل أبعادها ومعانيها وحدودها الفسيحة حين تطرحها الأنثى بين رجلي من تحب، دون أدنى شعور بالألم أو حتى بالندم

وترجو في الوقت ذاته أن هذه التضحية الصامتة تجد في قلب من قدمتها له وقعاً وتقديراً لها في نفسه ... وتفهماً ينسيها غصة الألم ومرارة الندم.

* * * * * * * * *

لم يكن السيد كبانجا قد عاد في اليوم الثالث كما كان مقرراً .. وهذا معناه زيادة يوم جديد من المعاناة والتعب على كريم الذي كان اعتاد بشكل قسري على أعمال المزرعة .. كما اعتاد أيضاً على رؤية (إهيكاواتا) إلا أنه ظل عاجزاً عن حفظ اسمه بشكل صحيح.

في اليوم الرابع وقبيل الغروب، عاد السيد كبانجا من رحلته ليجد كريم في انتظاره، وقد أنهى طلاء البيت بشكل جيد كما أتم نقل الماء أيضاً إلى البركة بكميات كبيرة، وأنجز باقي المطلوب منه بطريقة يبدو من ملامح وجهه أنها أرضته، إلا أنها لم ترض جيبه المغلق!!

فقد اكتفى بتفريك الجنيهات الواحد تلو الآخر وهو يودعها بين أصابعه بحسرة لتستقر في يد غيوم .. لقد أعطاها سبعة جنيهات فقط .. (يا له من عجوز بخيل ودميم) كلمات كان يتمتم بهن كريم بالعربية أمام العجوز القصير وهو يتكلم مع غيوم ..

إنطلقت غيوم وبيدها كريم إلى القرية وتبعهما إهيكاواتا أيضاً .. لقد أصبح الثلاثة رفقاء متلازمون اعتباراً من هذا اليوم الذي أصبح فيه كريم على مقربة من إرسال نداء استغاثة في جوف المجهول ..

لقد قرر إهيكاواتا ان يلازم صديقه الجديد الذي أحبه بكل صدق وإخلاص مما رآه منه من رحمة وشفقة وعطف عليه .. قرر ملازمته حتى آخر لحظة يغادر فيها الجزيرة .. ثم يعود بعدها إلى عمله من جديد.

افترق الثلاثة عند مدخل سوق القرية .. ذهبت غيوم إلى شراء البطاريات بينما اتجه كريم ورفيقه الغلام إلى (جندر) في مبنى الاتصالات لإحضار جهاز البث ومعه الأنتينا (الآرييل) واتفق الجميع على الإلتقاء عند مخرج القرية باتجاه الشاطئ بعد ساعتين ...

* * * * * * * * * *

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير