تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال صديقنا الأكرم الدكتور أحمد إيبش في كتابه: (دفاتر دمشقية عتيقة) الذي تفضل مشكورا بإرسال نسخة منه لتنشر في موقع الوراق (*): (ومن أعظم ما وقفتُ عليه، وأظرف ما جرى للسلطان الملك العادل نور الدين بن زنكي، رحمه الله تعالى، حديثٌ يُكتب بماء الذهب. وذلك أن بعض العجم جاء إلى دمشق، فأخذ ألف دينار مصرية فبَرَدَها، ثم أخذ لها دقّ الفحم وعقاقير وطحن الجميع ثم عجنه بغراء السَّمك، وجعله بنادق وجفّفه جفافاً بالغاً. ثم لبس دِلقاً وتزيّا بزيّ الفقراء، وجعل تلك البنادق في مخلاة. ثم أتى إلى بعض العطّارين فقال: تشتري مني هذا؟ فقال: وأيّ شيء هذا؟ قال: طَبَرْمَك خُراساني! وهذه كلمة مصحفة معناها طترمك، قال العطار: وهذا لأيّ شيء ينفع؟ قال: ينفع من السُّموم، ويدخل في جميع الأدوية التي تدفع الأخلاط، وله نفع عظيم. ولولا أن أدركتني الحاجة ولم أقدر على حمله ما بعته، لأنه يساوي وزناً بوزن عند من يعرفه! فقال العطار: بكم هو؟ قال: بعشرة دراهم. قال له العطار: بثلاثة. فأبى، ثم اشتراه منه بخمسة دراهم، وجعله في برنيّة. وأخذ العجمي الدراهم وراح. فانظر إلى هذا الرجل وما أجسره، باع ألف دينار بخمسة دراهم، فهذه جسارة عظيمة، وقد قال القائل: من خاطر بنفيس ملك نفيساً. فلمّا انفصل عنه، لبس بزّة حسنة من ملابس الوزراء، ورتّب خلفه مملوكاً ونزل أكبر دار تصلح لوزير، وصار يمشي في الجامع ويتعرّف بالأكابر من أهل البلد، ويعمل السماعات ويخسر جُملةً، ويدّعي الوصول في علم الصَّنعة وأنه يقدر أن يعمل في يوم واحد جملة من المال. وشاع ذلك في دمشق، فسأله الكُبراء أن يعمل عندهم، فكان يقول: ما أنا محتاج إلى أحد، فالذي يريدني أعمل عنده أي شيء حاجتي إليه؟ وأنا قد آليتُ أن لا أعمل شيئاً إلاّ لملك، ومع هذا فإني لا أعمل شيئاً حتى يحلف لي أن مهما عملته لا يُنفقه إلاّ في سبيل الله. فاتّصل خبره بالوزير، فأحضره وآنسه، ثم ذاكَرَهُ بشيء من ذلك، فقال: قد كان من أمري أني حلفتُ أن لا أعمل شيئاً إلاّ لملك، بعد أن يعاهدني أنه لا ينفق منه شيئاً إلاّ في سبيل الله تعالى. فإن حصل هذا الشرط عملتُ وإلا فلا سبيل إلى عمل شيء. ولما سمع الوزير ذلك افتكر وقال: والله هذه سعادة للمسلمين وللسُّلطان، هذه البلاد كلها للأفرنج إلى بانياس، وكل يوم الغارات تصل إلى ديارنا، فاذا عمل شيئاً نفتح به هذه البلاد وهذه نعمة عظيمة! ثم قال: أُعرّف السلطان؟ قال: نعم، إلاّ أنّك تجمع بيني وبينه حتى أستوثق منه باليمين. ثم ركب الوزير فاختلى بالسلطان، ثم عرّفه ذلك، فقال: والله قد هجس في فكري أنه لا بدّ من شيء يوصلنا إلى قلع شأن هؤلاء الملاعين. فأحضر الرجل في غاية الكرامة. فأخذ له خلعة حسنة وبغلة بسرج ملجمة، فألبسه الخلعة وأركبه إلى جانبه، ثم صعد واجتمع به السلطان. ثم تحدّثا فقال: أصحيح ما قاله الوزير عنك؟ قال: نعم يا مولانا، لكن كل من ادّعى هذه الدرجة فهو كذّاب نصّاب دكّاك، بل أنا شَرطي مع السلطان أن لا أمسّ بيدي شيئاً، بل أكون بعيداً من مولانا وأقول له: افعل كذا واصنع كذا، ومولانا يفعل. فلمّا تقرّر الأمر على هذه القاعدة قال السلطان: باسم الله اشرع على بركة الله. فأخذ العجمي ورقة وكتب لهم استدعاء الحوائج، من العقار الفلاني كذا [ومن العقار الفلاني كذا]، ثم قال: من الطَّبَرْمَك الخُراساني مائة مثقال. ثم دفع الورقة لأستاذ الدار، وقال له: أحضر هذه الحوايج. فأحضر الجميع إلاّ الطَّبرمك، فقال إنّه ما وُجد عند العطّارين. فقال العجمي: في مثل دمشق يعدم الطَّبرمك؟ فقال السلطان: ما لنا شيء يُغني عنه؟ فقال: لا والله، ولا تخلو دمشق منه. بل إن مولانا السلطان يتقدّم إلى المحتسب بتفتيش دكاكين العطّارين، فإذا كان الغد ركبت أنا وهو وشهود عدول نفتح حانوتاً حانوتاً نفتّشه، فلا بدّ أن نجده. فقال: نعم. وكان المحتسب يُقال له القائد، فأرسلوا إليه ففعل ذلك، وركب العجمي من الغد وأخذ معه العُدول ونزلوا مع القائد، ثم جعلوا يفتحون دكاكين العطّارين حتى انتهوا إلى دكّان الذي باعه العجمي الطّبرمك. فقعد الشهود والمحتسب، ونزل صاحب الدّكان وجعل يضع قدّامهم برنيّة بعد برنيّة،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير