تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أوشك أن أعبر في برزخ من جامدات الدماء

تمتد نحوي كفها، كف أمي بين أهليها

لا مال في الموت، ولا فيه داء

كانت زيارات الأم للشاعر تتم ليلاً، وسبب ذلك تزايد إحساس السياب بالغربة والوحشة أثناء الليل، وفي هدوء الليل يتوهج فكر الشاعر، ويتقد خياله فيعبر عن مشاعره في رداء لفظي تكثر فيه التلاوين والظلال والدرجات التي تنم عن تلون النفس وعدم طمأنينتها، فحين ينظر السياب إلى ردائه المعلق في غرفته، يسمعه يهمس له قائلاً:

"لم يبق صديق ([13])

ليزورك في الليل الكابي

والغرفة موصدة الباب

فيجيب الشاعر على هذا الهمس بلغة الخيال:

ولبست ثيابي في الوهم

وسريت ستلقاني أمي

وتسأله الأم عند اللقاء كيف يقتحم الليل دون صديق أو رفيق، وهل هو جائع كي تطعمه من زادها؟ أو عطشان لتسقيه من رحم الأرض؟ وتذهب الأم بعيداً حين تدعوه كي يرمي ثيابه، ويلبس كفنها الذي لم يبل على مرّ الزمن:

أعددت فراشاً من لحدي

لك يا أغلى من أشواقي

للشمس، لأمواه البحر

كسلى تجري

لهتاف الديك إذا دوَى في الآفاق

في يوم الحشر

ويبعث موقف الأم على الحيرة وهي تدعو ابنها إلى الموت في اللحظة التي تتشوق فيها إلى الحياة، وأم السياب كغيرها من الأمهات هي التي منحت ابنها الحياة، ويصعب علينا أن نصدق بأنها ستنتزعها منه، فمثل هذا أقرب إلى الأسطورة أو العمل الأدبي وبالتالي فإن قيمة هذا الشعر لا تأتي من دقة الفكرة، ولا من الموضوع المطروق ومدى واقعيته، بل من الحركة الذاتية الداخلية للشاعر، من الحالة النفسية، ومن طريقته الخاصة في التصوير، وتنويع إيقاعاته بصورة دائبة، ومن تبديل اصطفاف المقاطع في القصيدة الواحدة، وعفوية تشكيلها الموسيقي، وأخيراً من المدلول الروحي لمقاطع القصيدة حين تأتلف الألفاظ في لحن جنائزي حزين، يعلو تارة، ويخفت تارة، معبراً عن رجع النفس الداخلي وهي ترفض الموت مرة وتقبل به مرة.

قد تكون قصيدة (الباب تقرعه الرياح) أكثر قصائد بدر تعبيراً عن جدل العلاقة بين الشاعر والأم، وأقرب تلك القصائد إلى أدب الأمومة من وجهة النظر الفنية والفكرية، فقد كتب السياب القصيدة وهو ما يزال في لندن، ينهش قلبه المرض ويعذبه الحنين إلى العراق، فالعراق هو بابه الوحيد أمام حياة واعدة بالعافية المشتهاة، والسعادة المرتقبة، غير أن الشاعر يقبع كسيحاً خلف باب غرفته في المشفى، ينتظر من يقرع عليه الباب ليحمله على أجنحة الشوق لعراقه الحبيب، يطوف فوق مدنه العريقة، ونخيله الباسق، وليله الساجي، فلا يجد سوى روح الأم:

الباب ما قرعته غير الريح ([14])

آه لعل روحاً في الرياح

هامت تمر على المرافئ أو محطات القطار

لتسائل الغرباء عني عن غريب أمس راح

يمشي على قدمين، وهو اليوم يزحف في انكسار

هي روح أمي هزها الحب العميق

حب الأمومة فهي تبكي

"آه يا ولدي البعيد عن الديار

ويلاه، كيف تعود وحدك لا دليل ولا رفيق

هذا البوح المفعم بالشجو، هذه المناجاة المسربلة بالعذاب والعذوبة، تعود بالشاعر إلى أيام الطفولة، إلى تلك اللحظة التي فارق فيها الأم فراقاً لا لقاء بعده:

أماه ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار

لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار

هذا الغريب هو ابنك السهران يحرقه الحنين

أماه ليتك ترجعين

شبحاً وكيف أخاف منه وما امحَت السنين

قسمات وجهك من خيالي

أين أنت أتسمعين

صرخات قلبي وهو يذبحه الحنين إلى العراق

وتستمر مناجاة الشاعر لأمه على هذا المنوال، وتنهض القصيدة على مبدأ الشفافية الذاتية، غير أنها تكشف الجوهري والعام بوعي الذات لذاتها كلما دخلت مناطق أوسع من الذات، وكلما ضمت إليها ما أغنى حياة الشاعر القصيرة بالرؤى والمشاعر والمواقف والأفكار، التي يخضعها الشاعر لإعداد داخلي، ويحولها إلى شعر يجسد العلاقة بالأم والقرية والمدينة، ويبوح بما يعذب النفس: الألم، والغربة، وافتقاد الأم، والحنين إلى العراق، ويفصح عن رغبة عارمة بقهر الانفصال، والتوحد مع الآخرين أحياء كانوا أم أمواتاً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير