تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلاقاته.

يبدأ نضجه الفكري حين تموت أمه الظبية، يصدمه هذا الحدث فيقرر فهمه، لذلك نجده يبحث عن سر الموت في جسدها أولا، لذلك يشرّحه باحثا عما حصل له بفعل الموت، هل نقص عضو من أعضائه؟

يفاجأ أن جسدها مازال على حاله، لم ينقص منه عضو، لكن ينقصه شيء مهم هو الذي يحرك الجسد ويملؤه بالعواطف، لم يستطع أن يهتدي إلى السر في ذلك، فدفن أمه بعد أن لاحظ أن رائحة نتنة بدأت تنبعث من جسدها مما زاد في نفرته منه، وود أن لا يراه، ثم إنه "سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه، وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق إلى هذا الفعل بأمي فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب" (6)

وبذلك انتهى من مشكلة الجسد ليصل إلى مشكلة الروح، فبدا لنا إنسانا أشبه بالفيلسوف، باحثا عن سر الحياة ليس في جسد أمه فقط، وإنما في هذا الكون المتنوع والشاسع، وبدأ يراقبه فلاحظ أن موجوداته (الأجسام والأشياء) إما تعلو (كالهواء والدخان) وإما تهبط (كالحجر) وبذلك تعرف على بعض خصائص العالم المادي عن طريق النظر والتجربة، لكن المعرفة المادية لم تكفه، فقد أراد أن يعرف ما يؤرقه من عالم ما وراء المادة.

لاحظ أن الأشياء لا تتغير طبيعتها إلا بفعل مسبب، كتحول الماء إلى بخار لا يكون إلا بالتسخين، والتالي فإن تحول الأشياء لا بد لها من محول، لهذا فإن حدوث العالم وخروجه من العدم لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود.

كذلك نظر إلى الكون وإلى نظامه الدقيق، أدهشه هذا النظام، فرأى أنه لا بد من أن يكون وراءه منظم قادر تجتمع فيه صفات الكمال وتنأى عنه النقائض، وهكذا قاده مبدأ السببية إلى الإيمان بالله تعالى، والتعمق في العالم الروحي.

لهذا أراد أن يقيم صلته بهذا الموجود، المنظم لكل شيء، وصار يتأمل في عالم الحيوان عله يتعلم منه، فرأى أنه لا يهتم إلا بالأكل والشرب وكل ملذات الجسد، فانطوى على ذاته يبحث في أعماقها عن سبل الاتصال بالله، فلم يجد سوى الاتصال الروحي والاستغراق في التوحد بالذات الإلهية، لهذا سكن في كوخه الذي بناه وانقطع عن العالم الخارجي ولم يعد يخرج إليه إلا مرة في الأسبوع تلمسا للغذاء الذي بات يعتمد على أبسط الأشياء، مما يتيح له القدرة على الاتصال بالله بشكل أفضل.

يأتي الجزيرة (آسال) وهو رجل دين متصوف، هاربا من شيوع الفساد في مدينته، بعد أن يئس من إصلاح أهلها، يلتقي بـ (حي) فينفر منه للوهلة الأولى خائفا من منظره (إنسان بدائي، شعر رأسه يغطي جسده إلى جانب ريش النسر الذي يكسوه، لكن تصرفات (حي) تهدئ من روعه، فيبدأ تعليمه اللغة، وحين يتقنها، يشرع في تلقينه تعاليم الدين، فيكتشف أن ابن يقظان قد توصل إلى الإيمان بإله واحد، وتعرّف صفاته، والتواصل معه عن طريق القلب، وعبادته بل بات يتفرغ لهذه العبادة.

وحين حدّثه آسال عن معاناته مع أبناء مدينته يطلب منه (حي) اصطحابه إليهم كي يحدثهم بتجربته الإيمانية، لعلهم يعودون إلى جادة الصواب، وحين يلتقي بهم، يوضح لهم تجربته العقلية في الإيمان، كما يحدثهم عن تجربته الصوفية في التواصل مع الله تعالى، لكنهم كانوا مشغولين بحب الدنيا وملذاتها، لذلك تركهم حي بعد أن نصحهم بالتزام أوامر دينهم وفق الشريعة، وعاد إلى الجزيرة بصحبة صديقه آسال، ليتفرغا للعبادة.

ملاحظات فنية حول رواية "حي بن يقظان":

تعد قصة "حي بن يقظان من أهم القصص التي ظهرت في العصور الوسطى، في نظر كثير من النقاد، فهي رائدة في فن القص، إلى جانب ألف ليلة وليلة، لهذا لا يحق لنا أن نحاكمها بمقاييس عصرنا، وما توصلنا إليه من إنجازات في النظرية السردية، فإذا حاولنا الحديث عن هذه القصة، بمقاييس عصرنا اليوم فليست الغاية تقويمية، كما قد يظن البعض، وإنما من أجل إبراز إنجازاتها الفنية المدهشة، وإبراز سقطاتها الفنية التي مازلنا نلاحظها لدى كتابنا اليوم، لذلك لا يضير مكانة ابن طفيل وريادته الحديث عنها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير