تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

رفعتْ رأسها، رمقتهُ ببصرٍ أمضّهُ التهديدُ وأعياهُ الشوقُ وأضناهُ الحنينُ، فبدتْ عينُها فاترةً، قد كَلَّ ما فيها من حيلةٍ وضاعَ ما بها من جاذبيّةٍ. >>

هزّتهُ نظرتها هزّةً عنيفةً أذهلتْهُ عن حدّتهِ وصلابتهِ، ثمَّ صحا على روحهِ وهي تغيبُ وتتحوّلُ إلى كتلةٍ مشتعلةٍ من المشاعرِ الوليدةِ في لحظتِها، أدركتهُ غصّةٌ شديدةٌ في حلقهِ، ففتحَ فمهُ تدريجيّاً دون شعورٍ، ثمَّ عضَّ على شفتهِ السفلى ببطءٍ، وأحسَّ بارتعاشٍ في أطرافهِ. >>

وهي بعيونها المريضةِ، وأنفاسِها المُتعثّرةِ، لم تقلْ شيئاً غيرَ جملٍ يسيرةٍ خرجتْ بصوتٍ واهٍ يتقطّعُ من أثرِ العبرةِ، فتفصحُ حيناً، ثمَّ تأتيها الغصّةُ فتُخني عليها لتتكلمَ دموعُها الهوامي: >>

- مهما قلتَ وسوفَ تقولُ، إلا أنّني أحبُّكَ، وأعشقُ قربكَ، عِشتُ حياتي بينَ حرفينِ خرجا من شفتيكَ: حُبّ، وُلدتَ في تلكَ اللحظةَ وعرفتُ معنى الجنونِ، تلذذتُ بانتفاضةِ القُربِ والوصلِ كما ذُقتُ لوعةَ الفراقِ والجفوةِ، وقد أخلصتُ لكَ الودادَ والمحبّةَ، وجعلتُكَ تسري في دمي ووجداني، ولم أخنكَ في يقظةٍ أو منامٍ، لكنّني فتاةٌ في ميعةِ الشبابِ وزهرةِ العمرِ، ولي أهلونَ يغارونَ عليَّ أشدَّ من غيرِتهم على أنفسهم، وعندي من الظروفِ ما لا يجتمعُ لأحدٍ، وأنتَ رجلٌ كنتَ تغيبُ طويلاً فألتمسُ لكَ المعاذيرَ، وتغسلُ عنّي أثرَ البُعدِ ببسمةٍ خجولٍ، أفلا شملني حنانُكَ فقبلتَ عُذري وغفرتَ إخلالي بالوعدِ. >>

آه!، كم تمنّيتُ لو كنتُ طليقةً من سجنِ الظروفِ، وأسْرِ الحياةِ الاجتماعيّةِ، فما كرهتُ شيئاً كما كرهتُ توافهَ الحياةِ، وقيودَ النّاسِ، وماذا أفادتْني هذه الأغلالُ العنيفةُ، هل ملئتْ فراغي الموحشَ، أو سكّنتْ قلبيَ الثائرَ؟. >>

كانتْ آهاتُها تفوحُ وتلهثُ هاربةً من حرارةِ الزفراتِ في صدرِها. >>

وبعد أن أنهتْ هذه الكلمةَ، أرسلتْ دمعةً خرجتْ من محاجرِها مثلَ شوكٍ يخرجُ من ثنايا الصوفِ المبلولِ. >>

لامستْ تلكَ الكلماتُ شغافَ قلبهِ، وعبثتْ بأوتارِ فؤادهِ. >>

رأى دمعتها تنزلُ وهي تنسابُ على صحراءِ خدّها في دلالٍ مصحوبٍ بكبرياءِ الأنثى، فمالَ على صفيحِها الغضِّ يلتمسُ مجرى ذلك الجُمانِ المُتحدّرِ، ومسحَ عليها ببطنِ أصابعهِ، فأحسّتْ بردَ تلكَ الأناملِ في صدرِها، وازدادتْ معها رعشةُ النّشوةِ في يدهِ - بعدَما سكنتْ رعشةُ التوتّرِ -، فأرسلتْ أنّاتٍ هزّتْ حبيبها وجعلتهُ يهيمُ مرّةً أخرى ولا يشعرُ بحالهِ، لتذوبَ أرواحهم وتنصهرَ في كتلةٍ مُلتهبةٍ من الغرامِ والعواطفِ، ثمَّ أدارتْ يده على خدّها ومسحتْ بهِ وجهها ووجنتيها، لتردّها بعد ذلكَ في لطفٍ وهدوءٍ، قائلةً: إذا كذبت وعودي يا حبيبي فلن تكذبَ هذه العيونُ المُشتاقةُ. >>

وهي ترمي بسهامِ عينها نحوهُ تستثيرهُ ليزيدها من بوحِ الصبابةِ، ويُذكي جذوتها، ويعزفَ بقيثارةِ الغزلِ سيمفونيّةَ الصبوةِ، لتنطلقَ أغاني الغرامِ مُعلنةً بدايةَ السَّكرةِ، وتتلاقى الأنفاسُ مُذيبةً جمودَ العِتابِ، فهمَّ أن يعطفَ عليها ويرويها فيضَ أحاسيسهِ المنصهرةِ بروعةِ جمالِها، لاسيّما وهو يرى الشفتينِ وقد ظمئتْ من طولِ الانتظارِ، والأعينَ أصبحتْ فاترةً وهي تترقّبُ لحظاتِ التمرّدِ، لكنّهُ تذكّرَ أنّهما في مكانٍ عامٍّ، فأقصرَ دونَ ذلكَ وهو يغلي في داخلهِ. >>

أقبلَ عليهم الليل يكنسُ بقايا نجومهِ، ويجرُّ رداءهُ عارياً، ويصدحُ صارخاً في صمتهِ المهيبِ، وقد غشّاهم بسكونهِ الصاخبِ بالنسماتِ المُتدفقةِ، ولم يشعرا من حاليهما إلا وأكفّهم تتناغمُ في توحّدٍ عاطفيٍّ خلاّبٍ. >>

هذى بكلامٍ كثيرٍ، لم يشعرْ بذاتهِ إلا وهي تتفكّكُ وتتشكّلُ مرّةً أخرى لتُصبحَ نسمةً منتشيةً تهمي على محيّاها الفريدِ، شعرَ وقتها أنَّ الزمانَ غيرُ الزمانِ، والوجودَ غيرُ الوجودِ، فلا ليلَ يكتنفهُ ولا نهارَ يحويهِ، لا يذكرُ إلا أنّهُ في ربيعِ حضنِها، تُزهرُ أفانينُ وردهِ بأنفاسها العِذابِ، ويقبسُ سناهُ من جذوةِ وجهِها الوضيءِ بالبسمةِ الخجولِ. >>

قالتْ لهُ: لا بُدَّ من الرحيلِ، فالوقتُ أزفَ، وإنَّ تأخّري عنهم قليلاً ربّما حرمني منكَ مُستقبلاً، والأيّامُ الجميلةُ تتراقصُ أمامنا، فهلاّ أذنتَ لي يا حبيبي. >>

فأغضى على مضضٍ وقبلَ طلبها مُكرهاً. >>

أدارتْ ظهرها، وصرّتْ بنعليها، ثمَّ ولّتْ فلم يرَ منها غيرَ طيفٍ بعيدٍ، وبقايا عطرٍ يلفُّ المكانَ. >>

توارتْ عن الأنظارِ، ورحلتْ. >>

أخذَ ينتظرُ موعدها كما تنتظرُ الصحراءُ قطرَ المطرِ، لكنّها لم تعُدْ. >>

مرّت ساعاتٌ، وأيّامٌ، وشهورٌ!. " >>

>>

>>

ومن المهمِ أن يعلمَ أنَّه لا مبررَ لقبولِ هذه الأعمالِ بحجةِ انتشارها وشيوعها هذه الأيام. فإذا كان أمرُها قد انتشرَ في الوسطِ الأدبي , بسببِ كثرةِ أصحابٍِها في الساحةِ , فإنَّ هذا لا يعني أن تكونَ الأبوابُ الأكاديميةُ مشرعةً أمامها لهذا السببِ , بل يجبُ أنْ تكونَ الأسوارُ الأكاديميةُ خطوطاً حمراء لا تتجاوزُها , إلا ما كان فيه الإشارةُ إلى نقدِها وبيان عورِها شكلاً ومضموناً , ووصفِ الألفاظِ العاميةِ فيها بأنها عيبٌ بها وخدشٌ في أدبيَّتها , وضعفٌ في إبداعِ صاحبِها يستوجبُ التوقفَ والمراجعةَ.>>

>>

وأخيراً لا أشكُ أنَّ اقتناعَ الروائي بتوظيفِ اللفظةِ العاميةِ في نصِهِ توظيفاً فنياً هو اعتداءٌ صارخٌ على الأدبِ الفصيحِ ولغتِهِ , وكذلك الحالُ بالنسبةِ للناقدِ فإنَّ سكوتَهُ وتبريرَهُ لهذا هو استعداءٌ ودعوةٌ لإشاعةِ الأدبِ الهجين المشوَّه.>>

>>

ولكن يبدو أن العربيةَ اليومَ بُليتْ بأدباء وُجِدَ عندَهم الدافعُ وقلَّ في قرائِحِهِم الإبداعُ فأخرجوا لنا أعمالاً شكَّلتْ طبقةً مُتَصنِّعَةً ثالثةً تحتَ طبقتي الطبعِ والصنعةِ>>

فأجازوا لأنفسِهِم أشياءً هي في الأدبِ العربي الرفيعِ من المسلَّماتِ التي لا يمكنُ تجاوزُها أو النيلِ منها. >>

>>

>>

والله يحوطكم جميعاً ويرعاكم.>>

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير