تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إنَّه ممَّا يدعو إلى الأسف أنَّ كثيرا من جوانب شخصية هذا العبقري ظلَّت مجهولة، فلا نكاد نعرف عنه إلاَّ جانبا من حياته العقلية وإبداعه الفكريِّ، ولم تكتب المصادر القديمة عن هذا الجانب - بطبيعة الحال - إلاَّ يوم أن صار أستاذا من أساتذة البصرة المرموقين، وشيخا من شيوخ العلم، تجاوزت سمعتُه حدود العراق إلى خراسان، وغيرها من الأمصار الإسلامية.

وعن هذه الشهرة يقول أبو محمد التوجي: «اجتمعت بمكَّة أدباء كلِّ أفق فتذاكرنا أمر العلماء، فجعل أهل كلِّ بلد يرفعون علماءهم ويصنِّفونهم ويقدمونهم، حتى جرى ذكر الخليل، فلم يبق أحد إلاَّ قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرفها» [5]

أقول على الرغم من هذه الشهرة الذائعة الصيت، وهذه المكانة التي اعترف بها القاصي والداني، فإنَّ تلك المصادر لم تسعفنا بشيء ذي بال عن نشأته وحياته بكلِّ التفاصيل المنتظرة، والتحاليل المتوقَّعة.

ولا نكاد نعرف عن نشأته إلاَّ أنَّه ولد سنة مائة للهجرة على الأرجح، وتوفي سنة سبعين ومائة، أو خمس وسبعين ومائة، وإلاَّ أخبارا متفرِّقة هنا وهناك، يجمعها الدارس بعد عناء، ويصل بين أطرافها بعد تأمُّل.

وأكبر الظنِّ أنَّ هناك عوامل تظافرت فحدَّت من أن يتحدَّث الناس عن الخليل أو يكتبوا عنه، ويهتمُّوا بدقائق حياته، ومن أهم هذه العوامل:

- ما يتَّصل بسياسة الحكم آنئذ، ومنها ما يتَّصل بالمجتمع: ففي المصادر القديمة نجد بعض الكتَّاب يتحدثون عن أنَّ الخليل «نشأ خارجيا صفريا أو إباضيا» [6]. والمعروف أنَّ الخوارج يومئذ كانوا من العناصر المناوئة للسياسة الأموية الجائرة، وقد اضطهدهم الحكَّام وتجنَّبهم الناس المناوؤون لهم: وأصبح التحدُّث عن المعارضين للحكم أمرا محظوراً، بل إنَّ الذين كانوا يكتبون كانوا في الأغلب الأعمِّ من التيار الممالئ للسلطة الأموية.

- ومن العوامل ما يتصل بالجانب الاجتماعي: فقد تعوَّد الناس أن يهتمُّوا بالأشخاص لمراكزهم الاجتماعية، مثل الجاه والنفوذ والمال، أي بما لهم فيه مصلحة، والخليل بما نشأ عليه من ورع، وزهد، وتقوى، وتعفُّف، كان أبعد الناس عن المظاهر البرَّاقة، مشتغلاً عن كلِّ ذلك بالعلم وحده، حتى صار مضرب المثل في طلب العلم والانقطاع له، وقد وصل تلامذته إلى هذه الشهرة؛ لأنَّهم سلكوا إليها السبيل الدنيوي، وذلك ما عبَّر عنه تلميذه وصاحبه النظر بن شميل حيث يقول: «أكلت الدنيا بعلم الخليل وهو في خصٍّ لا يشعر به، وأقام بالبصرة لا يقدر على فلسين، وعلمه قد انتشر وكسب به أصحابه الأموال» [7].

ولذا لم يهتمَّ بالاتصال به إلاَّ هؤلاء الذين وجدوا ضالَّتهم في العلم عنده، وهم خلاصة الجيل، ولم يتردَّد عليه هؤلاء إلاَّ بعد أن انحدر إلى الشيخوخة، وأصبح علَما من أعلام الفكر مشهورا، وعن هؤلاء وصل إلينا من أعماله العلمية من عروض ولغة ونحو، ومن أخبار متفرقة تتصل بزهده وتواضعه وذكائه وحبه للعلم والعلماء. [8]

- ومن العوامل أيضا زهد الخليل في التحدُّث عن نفسه إلاَّ قليلا جدًّا، وهو حتى عندما يتحدَّث عن شيء يتعلَّق به لا ينسبه إلى نفسه، وإنما يشير إليه إشارة، كما نلحظ ذلك عندما يتحدَّث عن قصَّته مع الفرزدق في صباه. وسكوته عن نفسه مظهر من مظاهر زهده ولون من التواضع الذي يلازم العلماء الأصلاء، وقد كان زاهداً متواضعاً لم يداخله الزهو ولم تبهره المنزلة العلمية التي صار مرموقا من أجلها، وبقي بعيدا عن المجتمعات الصاخبة لا يجاوز همُّه باب خُصِّه كما كان يقول، وهو إن غادره فإلى رحلة في طلب العلم أو للحجِّ.

وكان من زهده في دنيا المادة أن ابتعد عن التزلُّف لرجال الحكم، فلم يقف عند أبوابهم متملِّقاً يرجو عطاءهم، أو مادحا يتطلَّع إلى نوالهم، وكثيراً ما ردَّ بإباء ما كانوا يعرضونه عليه من عروض مغرية. ويحكى أنَّ سليمان بن علي والي المنصور العباسي على الأهواز طلب منه أن يتولَّى تعليم أولاده، وبعث إليه هدايا بها إغراءه، فما كان منه إلاَّ أن أخرج لرسول الوالي كسرة خبز يابسة قائلاً: «ما دامت هذه عندي فلا حاجة لي إلى الوالي سليمان، أبلغه عني ذلك» , ولم يتهاو أمام إلحاح ابنه عبد الرحمن الذي رآها فرصة للخروج من ضيق الأخصاص إلى دنيا القصور، بل إنَّ الخليل حمَّل ذلك الرسول أبياتا تعبِّر بصدق عن هذه الخلة العظيمة التي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير