تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تميز بها واشتهر:

قال الخليل: [9]

أبلغ سليمان أني عنه في سعة

وفي غنى غير أني لست ذا مال

سخيٌّ بنفسي أني لا أرى أحدا

يموت هزلا ولا يبقى على حال

الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه

ولا يزيدك فيه حول محتال

والفقر في النفس لا في المال نعرفه

ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

وكان سليمان هذا قد رتَّب له راتبا فقطعه عنه انتقاما لموقف الخليل منه، فما ازداد الخليل إلاَّ إيمانا وقناعة قائلا:

إنَّ الذي شق فمي، ضامن

لي الرزق حتى يتوفاني

حرمتني مالا قليلا فما

زادك في مالك حرماني

فبلغت سليمان هذه الأبيات فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل معتذراً، وضاعف جائزته له، فقال الخليل:

وزلة يُكثر الشيطانُ إن ذكرت

منها التعجبَ جاءت من سليمانا

لا تعجبن لخير زل عن يده

فالكوكب النحس يسقي الأرض أحياناً [10]

والمرء بقدر إعجابه بموقف الخليل وتقواه وثباته لا يخفي إعجابه من صمود الخليل، وعكوفه على العلم وحده، وحسد معاصريه وتعمُّدهم إنكاره، ولعلَّ موقفه هذا وشخصيته هذه كانت سببا مباشرا في ألاَّ يجد الخليل من عناية الكتَّاب ما وجده تلامذته ومعاصروه من اهتمام وعناية.

ومن العوامل التي جنت على الخليل حسدُ اللغويين الذين جاءوا من بعده حين أنكروا عمله المعجمي العظيم: (كتاب العين)، فكان منهم المنكِر بأن يكون العين من عمل الخليل البتَّة، ومنهم الذي جعله مناصفة بينه وبين تلميذه الليث بن المظفر، ومنهم من ازدراه واستصغره، مما سنراه حين التحدُّث عن هذا العمل المعجمي الضخم، وقد تفطَّنت بعض الدراسات الحديثة، بل وبعض الدراسات القديمة، إلى هذا التحامل على الخليل فأثبتت بالحجج القاطعة نسبة العين إلى الخليل، وبيَّنت جدارة الخليل بهذا العمل واستحقاقه له، وأوضحت كيف كان الحسد وحده هو الدافع لبعض اللغويين مثل الأزهري، ومن لفَّ لفَّه ليستنقص من إبداع الخليل، على الرغم من أنهم أخذوا عنه واقتبسوا نهجه، وقلَّدوه في طريقته. [11]

حياته وثقافته:

هناك اتفاق على أنَّ اسمه هو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي، وكنيته: أبو عبد الرحمن، والفراهيدي أو الفرهودي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك ابن مضر الأزدي العماني، ولا نجد خلافا بين المؤرِّخين في نسبته إلى عمان إلاَّ ما ذهب إليه صاحب كتاب روضات الجنان بأنَّه الخليل ابن إبراهيم بن أحمد، وأغرب ما قاله: إنَّه من أبناء ملوك العجم الذين انتقلوا بأمر "أنوشروان" إلى حدود اليمن؛ وهي نظرة شعوبية لا تخفى، ولا يلتفت إلى هذا الزعم، بعد أن أكَّد الخليل نفسه عن نسبه.

وقد اختلف في مكان ولادته، أهي بالبصرة؟ أم بعمان؟ على أنَّ هناك اتفاقا على وفاته بالبصرة سنة (175هـ)، والذي نذهب إليه بعد تقصِّي ما وصلنا إليه من مصادر ومراجع حول الخليل أنَّه ولد في عُمان، وذلك ما تذهب إليه المصادر العمانية من أنَّه من أهل ودام من الباطنة، وخرج من البصرة صغيرا مع والديه فأقام بها ونسب إليها.

ويؤيِّد هذا ما ذهب إليه صاحب نور القبس حيث يقول: «كان من أهل عُمان من قرية من قراها، وهو عربيٌّ صليبة، وأزدي من حي يقال له الفراهيد، وكانت الخارجية رأي قومه، وقد انتقل مع أهله صغيراً، وسكن في ظاهر البصرة، شبَّ وهو خارجيٌّ: إباضيٌّ أو صفريٌّ ... » إلى آخر ما قاله .. و الذي يعنينا هنا هو التحقُّق من ولادته بعمان، ثم انتقاله إلى البصرة، حيث شبَّ وترعرع وتعلَّم إلى أن مات، ومن المؤكَّد أنَّ جماعات كثيرة من قبائل الأزد خرجوا إلى البصرة واستوطنوا فيها بعد أن خصَّص لهم عمر رضي الله عنه حيًّا خاصًّا بهم، وقد شاركوا في الفتوحات الإسلامية، ثم كان فيهم بعد ذلك علماء أجلاَّء ومحدِّثون مشهورون, وأدباء مرموقون، وكان من هذه القبائل جماعة من الجهضم الذين نسبت إليهم محلَّة الجهامضة وجماعة بني حراص بن شمس، وجماعة من المعاول، وجماعة من بني هناه، وجماعة من اليحمد» [12].

والواقع أنَّ قبيلة الأزد التي تنتمي إليها قبيلة الفراهيد كانت قد سيطرت منذ زمن بعيد في البصرة، وكانوا قد قدِموا إليها من عسير عُمان، فطبعوا البصرة بطابعهم حتى قيل "بصرة الأزد" تعبيرا عن انتشارهم بها، وغلبتهم عليها، وتأثيرهم في حياتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير