تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كلمات في غاية الرقة مثل (يبسا) أو لا تخاف (دركاً) بمعنى لا تخاف ادراكاً. إن الكلمات لتذوب في يد خالقها وتصطف وتتراص في معمار ورصف موسيقي فريد، هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً ولا حقاً لا شبيه بينه وبين الشعر الجاهلي، ولا بينه وبين الشعر والنثر المتأخر، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التأريخ، برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.

في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماماً، وكأنها ظاهرة بلا تبرير ولا تفسير، سوى أن لها مصدراً آخر غير ما نعرف.

اسمع هذا الإيقاع المنغم الجميل:

(رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أ مره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق). (فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي. فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً). (يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور). (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار). (وسع ربنا كل شيء علماً).

ثم هذه العبارة الجديدة في تكوينها وصياغتها .. العميقة في معناها ودلالتها على العجز عن إدراك كنه الخالق:

(عالم الغيب والشهادة الكبيرة المتعال). (يجادلون في الله وهو شديد المحال).

ثم هذا الاستطراد في وصف القدرة الإلهية:

(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).

ولكن الموسيقى الباطنية ليست هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية، وإنما مع الموسيقي صفة أخرى هي الجلال!

وفي العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بها الله نهاية قصة الطوفان، تستطيع أن تلمس ذلك الشيء (الهائل) (الجليل) في الألفاظ:

(وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر).

تلك اللمسات الهائلة .. كل لفظ له ثقل الجبال ووقع الرعود .. تنزل فإذا كل شيء صمت .. سكون، هدوء، وقد كفت الطبيعة عن الغضب ووصلت القصة إلى ختامها: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر).

إنك لتشعر بشيء غير بشري تماماً في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان، وكأن كل خرف فيها جبل الألب. لا يمكنك أن تغير حرفاً أو تستبدل كلمة بأخرى، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإيقاع والنغم والحركة والثقل والدلالة .. وحاول وجرب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر، أن تغير حرفاً أو تستبدل كلمة بكلمة!

ولهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة والبلاغة وقع الصاعقة!

ولم يكن مستغرباً من جاهلي مثل الوليد بن المغيرة، عاش ومات على كفره، أن يذهل، وأن لا يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن، برغم كفره فيقول، وقد اعتبره من كلام محمد:

(والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه).

ولما طلبوا منه أن يسبه قال: (قولوا ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته).

إنه السحر حتى على لسان العدو الذي يبحث عن كلمة يسبه بها.

وإذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر والعجب والذهول، فالسبب هو التعود والألفة والمعايشة منذ الطفولة والبلادة والاغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا. ثم اسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكررون السور من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشري من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني وتتسطح العبارات.

وبالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل اللعلعة دون أن ينبض شيء في قلبه ... ثم المناسبات الكثيرة التي يقرأ القرآن فيها روتينياً ... ثم الحياة العصرية التي تعددت فيها المشاغل وتوزع الانتباه وتحجر القلب وتعقدت النفوس وصدئت الأرواح.

وبرغم هذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة، ويرتد فيها طفلاً بكراً وترتد له نفسه على شفافيتها، كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد والنكهة المذهلة والإيقاع المطرب الجميل في القرآن .. وكفيلة بأن توقفه مذهولاً من جديد بعد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير