تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والإمالة عند سيبويه هي تقريب صوت من صوت: "فالألف تمال إذا كان بعدها حرف مكسور وذلك قولك عابد، وعالم، ومساجد، ومفاتيح، وعذافر، وهابيل، وإنما أمالوها للكسرة التي بعدها أرادوا أن يقربوها منها كما قربوا في الإدغام الصاد من الزاي حين قالوا (صدر) فجعلوها بين الصاد والزاي فقرَّبها من الزاي والصاد التماس الخفة" (26). وتعليلها عنده هو الاقتصاد في الجهد العضلي، وهو ما عبر عنه بقوله: "فكما يريد في الإدغام أن يرفع لسانه من موضع واحد، كذلك يقرب الحرف إلى الحرف على قدر ذلك" (27). ولا شك أن تقريب الفتح من الكسر فيه من تيسير عملية النطق ما يجعل المتكلم يبذل أقل مجهود عضلي، ويمثل سيبويه لهذه الظاهرة بجملة من الكلمات من مثل: عماد، سربال، شملال، كلاب (28)، فحين نميل ألف "عالم" نكون قد قربنا الألف من كسرة لاحقة وهي كسرة اللام، وهذا تأثر رجعي، إذ تأثرت الألف بالكسرة الموالية لها، أما في "سربال" فقد تأثرت الألف بكسرة سابقة فأميلت وإن كان بينها وبين الكسرة حرف ساكن، ذلك لأن الحرف الساكن عند سيبويه: "ليس بحاجز قوي" (29)، وهذا التأثر تأثر تقدمي، إذ تأثرت الكسرة وهي الحركة الأولى في الألف فأمالته.

ومن صور التغيرات التماثلية الخاصة بالصوائت نذكر ما ساقه سيبويه عن إمالة الألف للياء يقول: "ومما تمال فيه ألفه قولهم: كيال، وبياع، وسمعنا بعض من يوثق بعربيته يقول كيال كما ترى، فيميل، وإنما فعلوا هذا لأن قبلها ياء فصارت بمنزلة الكسرة التي تكون قبلها، نحو سراج وجمال… ويقولون: شوك السيال والصياح، كما قلت: كيال وبياع وقالوا شيبان وقيس عيلان وغيلان فأمالوا للياء" (30). تمال الألف إذا سبقت بياء سواء جاورتها في مثل كيال وبياع أو فصل بينهما فاصل في مثل شيبان، وهي هنا بمنزلة الكسرة التي قبلها في نحو سراج وجمال، والكسرة أخت الياء وهذا تأثر تقدمي إذ تأثر الثاني بالأول.

ومن نماذج التأثر الرجعي ما ذكره عن إمالة ما فيه راء نحو: قارب والكافرون، حيث إن الراء تغلب الألف فتؤثر فيه، وتميله، وإنما حدث ذلك لأن الراء مكسورة والكسرة المتأخرة عن الألف تجعله يمال إلى الألف وأبلغ ما تمال فيه الألف نحو الياء إذا سبقها حرف من حروف الاستعلاء، وقد نتصور مدى صعوبة تحقيق كلمة مثل: غارم إذ الغين حرف مستعلٍ، مفخم وما يزيده استعلاء، وتفخيماً الفتحة الطويلة بعد الألف، ثم ينتقل بنا اللسان إلى حرف مُسْتَفِلٍ، مرقق وهو الراء يقول سيبويه: "ومما تغلب فيه الراء قولك: قارب وغارم وهذا طارد وكذلك جميع المستعلية إذا كانت الراء مكسورة بعد الألف التي تليها، وذلك لأن الراء لمّا كانت تقوى على كسر الألف في فِعال في الجر وفُعَال، لما ذكرنا من التضعيف، قويت على هذه الألفات إذا كنتَ تضعُ لسانك في موضع استعلاء ثم تنحدر وصارت المستعلية هنا بمنزلتها في قِفاف" (31).

الإتباع:

مما سجله اللغويون القدامى ظاهرة أطلقوا عليها: "الإتباع" وهي ضرب من ضروب تأثر الصوائت المتجاورة بعضها ببعض، ويطلق عليها اللغويون المحدثون اسم: "التوافق الحركي Vowel harmony(32) وهذه الظاهرة تدخل أيضاً في باب المماثلة، وهي مماثلة حركة لحركة أخرى مماثلة تامة.

يعد سيبويه من النحاة الأوائل الذين أدركوا وجود هذا النوع من المماثلة في اللهجات العربية، ودلل عليها مستخدماً لفظ الإتباع حيناً، وواصفاً الظاهرة حيناً آخر، فمن المواطن التي وظف فيها هذا المصطلح قوله: "واعلم أن قوماً من ربيعة يقولون (مِنهِم) أتبعوها الكسرة، ولم يكن المُسَكَّن حاجزاً حصيناً عندهم" (33). استعمل هنا لفظ الإتباع قاصداً به المماثلة في مسارها التقدمي بين كسرة الميم، وضمة الهاء، وقد أطلق اللغويون على هذه الظاهرة اسم "الوهم" يقول جلال الدين السيوطي: "ومن ذلك الوَهْم في لغة كلب يقولون مِنْهِم وعَنْهِم وبينِهِم، وإن لم يكن قبل الهاء ياء ولا كسرة" (34) وعزيت إلى قبيلة كلب وهي من القبائل البدوية التي تميل إلى الانسجام بين أصواتها لأن هذه الظاهرة في هدفها العام تندرج ضمن مماثلة حركة لحركة تسهيلاً لعملية النطق، وإن كان د. إبراهيم أنيس له تفسير آخر حيث يرى أن لهجة كلب من الممكن أن تكون قد تأثرت بمن جاورها من لغات سامية كالآرامية، والعبرية اللتين تؤثران الكسر في مثل هذه الضمائر (35).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير