قد أكون مخطئة، يا شيخنا، ولا عجب أن يكبو الصغار أمثالي، لكنّ ثمّة أنفاس أجدها خُنقت، ولم يتح لها الظهور، إما لعجلة الشاعر في إخراج مخبوء الفؤاد، وإما لأن الشاعر اجتزأ من النصّ ما أراد نشره وطوى الباقي، وإما لأنه كتب النصّ لينشره فجاءت الأبيات كلها مما يصلح للنشر! والرأي الأخير ضعيف؛ بالنظر إلى نفحات الصدق التي تتسلل من الأبيات حتى لكأنك تشعر أنها تخاطبك، وتعبر عن مكنون نفسك، وتعكس كثيرًا من جراحاتك.
بيت القصيد في هذه الرائعة، أو إن شئتَ قلتَ عينها، هو قول مبدعنا:
ما زلتُ أرحل عن شطيك مبتعدًا ... حتى تغرّبتُ عن روحي وعن ذاتي!
وانظر إلى جَعْله الغربة عن روحه وعن ذاته على حين يظن القارئ للوهلة الأولى -قبل أن يقع على قولة الشاعر- أنه سيقول: حتى تغرّبتُ عنكِ! لكن الشاعر يلتفت التفاتة رائعة تجعل المخاطبة في منزلة الروح والذات، بل الحق أنه جعل روحه وذاته في منزلة المخاطبة!
ياألله ما أروع هذا المسلك!
يتوجّع الشاعر من البيت السابع الآنف الذكر حتى قوله:
حقائق الكون في جنبيّ ماثلة ...
وهو توجّع متناثر الموضوعات يعكس بحقّ الشتات النفسي الذي يعيشه المرء حال توجّعه حتى لكأنه يتخبّط لفرط ما يقاسيه من همّ وألم، ونظرة أخرى إلى الأبيات المعنيّة تكشف هذا بجلاء.
ولو كنت مكان شاعرنا العملاق لاخترتُ أن يكون ختام هذه الرائعة:
فيم المعاناة والأيام راحلة ... كلّ البدايات تسعى للنهايات!
ففيه حكمة تسفر عنها المعاناة عادة، ولفظ (النهاية) واردٌ في البيت وإن لم يكن يراد منه انتهاء القصيدة، ومضمونه يفيد معنى النهاية والمنتهى، ولذا أراه أجود من البيت الأخير ليختتم به الشاعر قصيدته.
على حين جاء البيت الأخير غامضا -من وجهة نظري- وكأنه موضوعٌ في غير مكانه، أو جاء في غير زمان الأبيات قبله، وهذه وجهة نظر قابلة للنقض.
أخيرا، شيخنا المبارك
وقت ممتع بحق أمضيته مع أبياتكم الرائعة، وقد كنتُ أمنّي النفس بالوقوف أمامها منذ مدّة، قبل أن تسوقني سينيّتكم الأخيرة إليها، فشكر الله لكم صبركم واحتمالكم تطفّلي على جليل عملكم ورائع أدبكم، ولا زال للإبداع نصيب من إبداعكم.
ـ[أبو سهيل]ــــــــ[07 - 03 - 2010, 05:37 ص]ـ
وانظر إلى جَعْله الغربة عن روحه وعن ذاته على حين يظن القارئ للوهلة الأولى -قبل أن يقع على قولة الشاعر- أنه سيقول: حتى تغرّبتُ عنكِ! لكن الشاعر يلتفت التفاتة رائعة تجعل المخاطبة في منزلة الروح والذات، بل الحق أنه جعل روحه وذاته في منزلة المخاطبة!
ياألله ما أروع هذا المسلك!
قال لي المحبوب لما زرته: ...... من ببابي؟ قلت: بالباب أنا
قال لي: أخطأت تعريف الهوى ........ حينما فرقت فيه بيننا
ومضى عام فلما جئته ........ أطرق الباب عليه موهنا
قال: من بالباب قلت: انظر فما ........ ثم إلا أنت بالباب هنا
قال لي: أحسنت تعريف الهوى ........ وعرفت الحب فادخل يا أنا
ـ[أحمد بن يحيى]ــــــــ[07 - 03 - 2010, 05:58 م]ـ
أستاذنا القدير ومبدعنا الكبير أبا يحيى
فررتُ من القوافي المقيّدة (السينيّة منها واللاميّة) إلى هذه المطلقة الرائعة، وقد كنتُ زرتها قبلُ، وقيّدتها في كناشةٍ تجاور جهازي دائمًا.
حين مررتُ للمرة الأولى كنت أنوء بثقل همٍّ أحمله، وأعود إليها ثانية في ظروف مشابهة، أناجي فيها عنوان هذه الفاتنة: ما عدتُ أقوى على حمل الجراحاتِ!
لله هذا الشعر الذي يصافح المفؤودين، فيلامس جراحهم، ويحاكي آلامهم، ويناجي أوجاعهم!
إن قرأتُ النصّ بعين لغوية كليلة، فسيتراءى لي النصّ بناءً رائعًا عمد الشاعر - مع سبق الإصرار والترصّد- إلى طيّ بعض أجزائه، ولا أدري لم فعل ذلك؟!
قد أكون مخطئة، يا شيخنا، ولا عجب أن يكبو الصغار أمثالي، لكنّ ثمّة أنفاس أجدها خُنقت، ولم يتح لها الظهور، إما لعجلة الشاعر في إخراج مخبوء الفؤاد، وإما لأن الشاعر اجتزأ من النصّ ما أراد نشره وطوى الباقي، وإما لأنه كتب النصّ لينشره فجاءت الأبيات كلها مما يصلح للنشر! والرأي الأخير ضعيف؛ بالنظر إلى نفحات الصدق التي تتسلل من الأبيات حتى لكأنك تشعر أنها تخاطبك، وتعبر عن مكنون نفسك، وتعكس كثيرًا من جراحاتك.
بيت القصيد في هذه الرائعة، أو إن شئتَ قلتَ عينها، هو قول مبدعنا:
ما زلتُ أرحل عن شطيك مبتعدًا ... حتى تغرّبتُ عن روحي وعن ذاتي!
¥