تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا ما وقع بالفعل، ونلمسه الآن في الحوار المستمر بين الشعوب عن طريق جسور التواصل السريعة اليومية .. فضاء الإنترنيت ...

الفضائيات المتنّوعة التي تجعلك تشاهد المئات من القنوات دفعة واحدة، الهاتف بمختلف أشكاله وأنواعه، المطارات المجهّزة بأحدث الطائرات، الهجرة من أجل العمل أو السياحة، هذا الاحتكاك يؤدّي إلى التلاقح بين الذوات مثلما يؤدّي إلى تفاعل الثقافات و بالتالي لا نلمس اختلافا أو تباينا بين البشر بقدر ما نشاهد انصهار الحضارات جميعا وتعايشها والأخذ من بعضها عن طريق التأثّر والتأثير، و من هنا نلمس تلك التحّولات التدريجية في الكثير من المدن العربية .. و الزائر اليوم لأّي مدينة عربية يلمس هذا التقارب حين يجد المدينة القديمة إلى جانب المدينة العصرية الجديدة، واللباس العصري إلي جانب الجلباب، والموسيقى التراثية الأصيلة ممزوجة بالعصرية الحديثة، و أحيانا تختلط هذه الأشياء جميعا مكوّنة شيئا جديدا ... ، هذه هي طبيعة الحوار التي نعيشها بدون أن نشعر بوجودها، لأنها عالم نعيشه و لا مفرّ منه، وهذا ما نبتغيه من الحوار" لأن الأصل في الحوار هو اختلاف الرؤى، وفي قبول هذا الاختلاف يتجلىّ التفاهم الذي يمليه احترام الآخر المختلف و استقلاليته عملا "

وقد تفّطن البشر إلى الحقيقة النسبية، إذ لا أحد يملك الحقيقة المطلقة وبالتالي " تكمن قيمة الحوار في الأيمان بالنسبة الفكرية، وأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة لوحده "

ولذا نجد قيمة الحور في الانفتاح على الآخر، حيث تتراجع الذات عن ثوابتها لتمتدّ جسور التواصل نحو الآخرين، ويبدو الخطاب الروائي المكتوب ترجمة لإرادة الشعوب وتكثيفا لأشياء أخرى تتجاوزها " فالاختلاف هو الانفتاح الذي يبقى مفتوحا " بناء على ذلك يتعيّن على القديم استقبال الجديد الذي يمكن أن يكون قديما إذا لم ينفتح على غيره لأن " الهويّة الذاتية لا تبنى إلا ضمن التفاعل مع نظّرة الآخر، لهذا فان الصورة الفوتوغرافية للإنسان تعكس صورته التي يحملها هو عن نفسه "

وبالتالي يدخل الإنسان في هويّة كونية تجد لنفسها قواسم مشتركة تربطها مع أبناء جنسها سلوكا وقانونا وتربية ونظاما و في تلاقح الذوات غنى وتوسّعا في الإدراك والمعرفة والخبرة والتجربة واليقظّة والوعي المستمر بما يحمله المستقبل من خبايا وعندما نتكلّم عن الإنسان وتلاقحه مع غيره فإنّ التلاقح أيضا يشمل الثقافات والنصوص، إذ تتفاعل فيما بينها لتلد نصا جديدا مغايرا ومختلفا بدليل أن النص لا يلد الآ من نص آ خر فهو أشبه بالكائن الحي الذي يلد ويولد وينمو و يتطور ويشيخ ويفنى لينطلق مولودا جديدا يحمل هويّة جديدة بدون أن يكون نسخة طبق الأصل لوالده، ومثلما نجد التهجين المعتمد في الزراعة والكائنات الحيّة الأخرى بحثا عن الجودة والقوّة فكذلك الثقافة، والمّتأمّل للرواية العربية مند نشأتها إلى أن وصلت إلى ماهي عليه الآن يلمس تلك القفزات النوعية والتحولات السريعة التي شملت أسلوبها وبناءها ونسيجها ودائما نحو الأحسن و الأفضل، نذكر على سبيل مثال "رواية " زينب لمحمد حسين هيكل، لو أعدنا قراءتها اليوم لاستعصت على القارئ العربي، لكونها قد تجاوزها الزمن و لم تعدّ تلبي حاجة الإنسان اليوم، ونفس الشئ نجده في رواية "عصفور من الشرق " لتوفيق الحكيم حيث هي أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى الروية و تعبّر عن دهشة الإنسان العربي لاكتشاف الأخر المختلف ونحن نتصّور حجم هذا الاختلاف من خلال ذلك الرجل الأزهري الذي يلبس جلبابا أبيض وطربوشا أحمر وهو متشبعّ بثقافته الشرقية يكتشف الحي اللاتيني، هذا العالم المختلف المغاير و يشعر بخيبة أمل تجعله يلعن الغرب ويعود إلى شرقه إلى ذاته حيث يجد نفسه ورغم أن هذه الرواية ضعيفة في بنائها الفني، هزيلة في لغتها وأسلوبها و رؤيتها، لأنها تعتمد على وتر واحد وثقافة واحدة، ثم بعد حقبة زمنية تصل إلى ربع قرن تظهر رواية " الحي اللاتيني "لسهيل إدريس و هي أقرب إلى السيرة الذاتية أيضا و لا نلمس تجديدا الآ في اللغة نظرا للاحتكاك والتواصل الذي هو في بداية عهده، لكن بعد ربع قرن أخرى ظهرت رواية " موسم الهجرة إلى الشمال التي هي أكثر نضجا وأقوى بناء لأن التفاعل الثقافي في ذلك الزمن قد عمل عمله واستطاع أن يشكّل إفرازا جديدا و متناسلا للتحولات الاجتماعية التي ساهمت في معرفة الذات من خلال معرفة الآخر، هذا ما جعل الرواية تخرج عن البنية السطحية المباشرة لتلمس العمق وتتكثّف دلالة الرواية و رمزيتها، كما تميزّ " الطيب صالح " خلافا لزملائه كتّاب الرواية بالانتقاء اليقظ لزاوية الالتقاط، و التعبير اليقظ عن مادّة الالتقاط، لذا تتجلىّ المفارقة واضحة هذه المفارقة التي تقول، أن تفاعل الثقافات و تعدّدها وتلاقحها هو قوّة للثقافة و خدمة لها تخصيبا لنسيجها و تعددا لمعارفها واتجاهاتها، أمّا الثقافة التي تضرب على وتر واحد فمآ لها الموت والفناء، حتى و إن اعتبرنا أن الإبداع الحق بخيل ومتمنّع رغم أن الحقيقة تقول أنه يتجّدد ويتوالّد باستمرار مفتتحا في كلّ مّرة أفقا جديدا للتخيّل والتأمل والقول، خاصة مع القرن الواحد والعشرين عصر النص الالكتروني " وفي هذا العصر الالكتروني نستطيع أن نعطي قيمة لتراثنا القديم و نستعين بالمنجزات الجديدة لجعله حيا ومستمرا، تتفاعل مع الأجيال تفاعلا جديدا وبطريقة مختلفة ومغايرة "

و المتأمّل لكل ما ورد، يجد أن العالم حقّا بدأ يتحول إلى قرية صغيرة يتم فيها التواصل بين الناس بأقصى درجات السرعة، و ها هي الرواية العربية بدورها تتلّون الآن بتلوينات شتّى تتجلى فيها عطاءات الشعوب وثقافتها و كيف لا والخطاب الروائي يواكب المستجدّات ويتفاعل معها بناء على التطوّر والتنوّع في التيمات والمتون الروائية، وكثافة دلالاتها كعلامات نصّية، تعبّر بحقّ عن فضاء عصري جديد يتّسم بمظاهر الحداثة و التحوّل، ونحن ننتظر من الرواية العربية الحداثية الكثير والكثير ......

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير