تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ظهرت مسرحية (بغماليون) لبرناردشو عام (1912) وقد كان بطلها (هيجنر) عالما متخصصا في دراسة الأصوات، يعجب أثناء توقفه في المحطة بلهجة بائعة الزهور (أليزا) إذ إنها بلهجتها غير المدنية تتيح له الفرصة لدراسة الأصوات، ومعرفة مدى قدرته على تحويل اللهجة الريفية إلى لهجة مدنية، فيعرض عليها فكرة تحويلها إلى سيدة من المجتمع الراقي، تعجبها الفكرة فتوافق، وحين يلقنها دروسا في قواعد اللغة والإلقاء والحديث، تستوعبها بذكاء، وبما أن تعليم الأصوات يتطلب تعليم النحو، ولابد من أجل تعلم النحو على طريقة سليمة من تهذيب الفكر والإحساس، أي يستلزم تعلم اللياقة الاجتماعية، وبمثل هذا التعلم استطاعت الفتاة الظهور في المجتمع بوصفها (دوقة) وهكذا استطاع (هيجنر) أن يصنع من الفتاة الفقيرة المعدمة أميرة أرستقراطية، كما استطاع (بغماليون) أن يصنع امرأة من تمثال.

لكن عند (برناردشو) برزت معاناة الفتاة التي انتقلت بفضل العالم (هيجنر) من طبقة فقيرة إلى طبقة غنية، فعاشت صراعا بين القيم التي نشأت عليها، وبين قيم حياة جديدة، لا ترأف بالإنسان، بل تنظر إليه بصفته أداة لتحقيق المآرب، فقد وقعت في حب أستاذها (هيجنر) في حين لم ينظر إليها إلا نظرة العالم لموضوع دراسته، فهي تنتمي إلى طبقة غير طبقته، لذلك لن يستطيع الزواج منها، ينتهي الصراع النفسي في أعماق الفتاة بأن ترفض البقاء في تلك الطبقة المزيفة، وتفضل الزواج من سائق أجرة، فقد باتت تحتقر تقاليد الطبقة الارستقراطية التي تقوم على الزيف والتفاهة، وتتزوج رجلا من طبقتها.

إذا تلتقي هذه المسرحية بالأسطورة في هاجس تحويل المرأة، التي يراها (هيجنر) أشبه بتمثال، من حال إلى حال، عبر قدراته الإبداعية في العلم، التي أتاحت له استخدام علم الأصوات في تحويل المرأة، كما أتاح الفن في الأسطورة تحويل المرمر إلى امرأة جميلة.

ومما ساعد على تلمس هذا اللقاء، أن الكاتب وضع عنوانا لمسرحيته يشير إلى الأسطورة التي استفاد منها في فكرة التحويل فقط.

أما أجواء المسرحية فقد بدت لنا أجواء واقعية، تنطق بهموم الإنسان المعاصر وأزماته في عصر العلم، بعيدا عن أجواء الأسطورة وتفاصيلها، فالفنان بغماليون أصبح عالم صوتيات (هنري هيجنر) أما التمثال (غالاتيا) فيصبح امرأة فقيرة تبيع الزهور (أليزا) فالإبداع هنا في تحويل الفتاة الريفية إلى امرأة أرستقراطية بتدريبها على لغة غير لغتها وعادات غير مألوفة لديها.

لو تأملنا تعامل الفنان (بغماليون) مع التمثال الذي أبدعه للاحظنا شغفه به إلى درجة التوحد معه، والطلب من الآلهة تحويله إلى كائن بشري يتزوجه، في حين لاحظنا (هيجنر) يتعامل مع (أليزا) بجفاء وآلية، إلى درجة يلغي إنسانيتها وأحاسيسها، رغم أنها أحبته، وأظهرت ذكاء شديدا من إنجاح التجربة، لعلها تفوز بإعجابه فيقدم على الزواج بها، لكن (هيجنر) يرفض هذا الزواج، على نقيض الأسطورة، لأنها مازالت في ذهنه صنيعة له، لا يمكن أن تصل إلى مستوى طبقته، فهي ابنة الوحل، مهما أبدت من إمكانات عظيمة، وبذلك يدين الكاتب وممارسات الطبقة الارستقراطية وأفكارها سواء بتصوير تناقضاتها، حين تقول شيئا وتفعل شيئا آخر (يعلم هيجنر أليزا القواعد والأصول الاجتماعية كأن تتحدث بصوت منخفض لكنه لا يلزم نفسه بها) أم بتعريتها من المشاعر الإنسانية، إذ تبدو مغرقة في أنانيتها، فلا تهتم إلا بذاتها وما حققته من انتصارات في تجاربها العلمية، وبذلك يقف من أليزا موقف العالم الذي يتجرد من عواطفه، ويرى في العقل المجال الوحيد لحياته، كما يقف منها موقف الإنسان الطبقي الذي يرفض رؤية أبناء طبقات الفقيرة أندادا له.

لعل (برناردشو) يرى أن إعجاب الفنان بفنه إلى درجة التوحد، والرغبة في التواصل الأبدي معه يعبر عن موقف رومنسي (كما حصل في الأسطورة) فهو يريد من الأديب أن ينأى بعواطفه الخاصة عن شخصياته، فيتيح لها فرصة التعبير عن ذاتها بحرية، وهذا ضروري في اعتقادنا، في الفن المسرحي والقصصي، لكن ذلك يبدو صعبا في الشعر الغنائي، إذ لا يمكن أن يفصل الشاعر بين فنه وذاته.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير