تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن الطبقة الاجتماعية لدى (برناردشو) الاشتراكي ليست لغة وعادات (أتقنتها أليزا) وإنما هي مجموعة أفكار راسخة تجعل من الصعب ردم الهوة بين الطبقة الدنيا والطبقة العليا، ومثل هذا الردم لن يكون بجهود فردية، إنه بحاجة إلى جهود جماعية ومؤسسات ثورية، لذلك رأى الكاتب الاشتراكي لقاء هاتين الطبقتين بشكل حقيقي وجوهري لقاء مستحيلا، فكان اللقاء بينهما لقاء شكليا مزيفا، ولم يتحول إلى زواج، الذي، ربما، يعني توحدا بين الطبقات ومساواة في الإنسانية.

لعل من أبرز سمات الكاتب المسرحي (برناردشو) استخدامه أسلوب السخرية في التعبير عن احتقاره للطبقة الارستقراطية، فأبرز بشاعتها، حين ألغت المشاعر من حياتها، وحين استخدمت لغة غير لائقة في حين كانت تعلم اللياقة والذوق للآخرين، وقد أبرز الكاتب هذه التناقضات عن طريق الحوار الساخر، الذي ينبض بالمواقف المتناقضة واللغة المبتذلة (مثلا يقول هيجنر لمديرة منزله مسز بيرس: خذيها ونظفيها بصابون الزفر إذا لم تنفع طريقة أخرى. هل النار موقدة في المطبخ .. اخلعي عنها كل ملابسها واحرقيها ... فتجيبه مديرة منزله "صحيح يا سيدي! إذن اسمح لي أن أطلب منك ألا تنزل لتناول إفطارك لابسا الروب أو على الأقل لا تستعمل أكمامه بدل الفوطة كالعادة" (7) بل نجد لدى هذه الطبقة تصرفات غير لائقة ينتفي فيها العقل لصالح التقليد (نجد مثلا ابنة العائلة الارستقراطية "أينزفوردهل" تقلد لغة أليزا السوقية وفي ظنها أن الفتاة تنطق لغة الطبقة الراقية التي مازالت تجهلها) وهو بهذه السخرية يحاول أن يهزّ أركان المثل الأعلى للمجتمع الراقي، رغبة منه في بناء حياة أصيلة تبدو قيمة الإنسان فيها بعمله، لا بما يملك من دماء زرقاء وأموال.

تتجلى براعة (شو) في كونه يمنح أبطاله حرية التعبير عما يجول في أعماقهم من أفكار ومشاعر، فيحاول أن يكون حياديا كي يتيح الفرصة لمن يخالفه الرأي (هيجنر) كما يتيحها لمن يوافقه الرأي، وإن بدا لنا متعاطفا مع الشخصية الفقيرة (أليزا) ساخرا من الشخصية الغنية ومثل هذا الموقف لا يمكننا أن نلومه عليه، لأنه جزء من تكوينه الفكري والنفسي.

مسرحية "بغماليون" لتوفيق الحكيم:

يعترف توفيق الحكيم في مقدمة المسرحية بأن أول من كشف له عن روعة أسطورة بغماليون ليس عملا مسرحيا، وإنما عملا تشكيليا هو لوحة زيتية تدعى "بغماليون وغالاتيا" بريشة الفنان "جان راوكس" المعروضة في متحف اللوفر ... وبعد فترة من الزمن كاد ينسى الأسطورة، لكن رؤيته لعرض فيلم عنها من تأليف برناردشو ذكّرته بها لذلك وجدناه يقول "عندئذ تيقظت في نفسي الرغبة القديمة، فعزمت على كتابة هذه الرواية ... وقد فعلت وأنا أعلم أن هذه الأسطورة قد استخدمت في كل فروع الفن على التقريب ... ولابد أنها أفرغت في مسرحيات عدة فيما أعتقد ... إني أعالج إذن أسطورة مطروقة في الآداب والفنون العالمية ... ومع ذلك من يدري؟ ربما لحظ بعض النقاد أن "أهل الكهف" المقتبسة من القرآن الكريم، وشهرزاد المستلهمة من "ألف ليلة وليلة" و"بغماليون" المنتزعة من أساطير اليونان ... ليست كلها غير ملامح مختلفة في وجه واحد؟ " (8)

يلاحظ أن توفيق الحكيم لم يعترف بتأثره بمسرحية برناردشو وإنما بالفيلم الذي اقتبس منها وبالأسطورة اليونانية، مع أنه من المرجح عودته للمسرحية الجنس الأدبي الذي نسج على منواله والذي يشكل مجال إبداعه، كما يلاحظ أن هذه المقدمة تفصح عن ارتباك المصطلح المسرحي لدرجة يطلق على المسرحية مصطلح "الرواية" ومثل هذا الارتباك قد يعني أن هذا الفن مازال في بداياته لم ترسخ أسسه في أذهان المؤلفين قبل المتلقين، وأن التأثر بالآخر أمر مفروغ منه سواء اعترف المؤلف أم لم يعترف، لكن الملاحظ أن الحكيم يعلن تأثره بالأسطورة اليونانية كما يعلن تأثره بالتراث الإسلامي دون أي حرج وإن كان يلمح إلى أن هذا التأثر لن يفلح في إلغاء أصالته الإبداعية ووجهه الحقيقي سنرى مدى صدق هذا القول من خلال دراسة تفصيلية للمسرحية تبرز علاقة هذه المسرحية بأسطورة بغماليون وعلاقتها بمسرحية برناردشو.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير