تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هنا نلاحظ فارقا أساسيا بينهما يكمن في البعد الفكري الذي ينعكس على الإبداع، إذ نجد توفيق الحكيم يؤمن بقضية الفن للفن (رغم قلق هذا الإيمان) في حين لاحظنا برناردشو الاشتراكي يؤمن بقضية الفن للحياة، لذلك يحاول أن يقدم تجربة العلم (علم الأصوات) وقد جُعل في خدمة الإنسان، حيث تم نقل أليزا من طبقة فقيرة إلى طبقة غنية، لكنه في الوقت نفسه يبرز الخلل الذي يعتري التجارب العلمية حين نفصلها عن المشاعر الإنسانية، فتبتعد عن الغاية النبيلة لتسقط في الآلية والقسوة، وبذلك نلمس لدى برناردشو رغبة في امتزاج العلم بالفن، ليسخرا في خدمة الإنسان فيرتقيا بروحه وفكره.

وبناء على ذلك نستطيع أن نقول: أفلح برناردشو في بناء مسرحيته وفق بعدين منسجمين الأول: بعد واقعي نجد فيه شخصيات حيوية تتحرك في أجواء واقعية، تبدو بعيدة عن الأسطورة، تغوص في تفاصيل الحياة اليومية، أما البعد الثاني: بعد رمزي أسطوري نلمس فيه علاقة المبدع بما يبدعه، أو بالأحرى علاقة العالم بما ينتجه، فبدت علاقة سلبية، اتسمت بالرفض وعدم الزواج بأليزا وهذا يتناقض بما رأيناه في الأسطورة وفي مسرحية الحكيم، من علاقة إيجابية بشكل كامل في الأسطورة، ومن علاقة متوترة بين الإيجابية والسلبية لدى الحكيم، لكن الملاحظ أن مسرحية الحكيم كانت ذات بعد واحد في بنائها، فقد اعتمدت البناء الأسطوري وظلت وفية له، لذلك يمكننا القول: إن مسرحية برناردشو أكثر عنى وتميزا في الاستفادة من أسطورة بغماليون، ولعل استخدام ومصطلح "البناء الأسطوري" من باب الاستخدام المجازي، إذ إن جملة العلاقات والصراعات لا تتحكم بها قوى خارقة، إنما يتحكم بها العلم الذي بات يصنع المعجزات في عصرنا.

أثر أسطورة بغماليون في القصة:

سنتناول في هذه الدراسة أثر أسطورة بغماليون في نموذج من القصة القصيرة السورية للكاتب جورج سالم في مجموعته "عزف منفرد على الكمان".

بدا هذا الأثر واضحا في قصة "الينبوع" (12) التي تتحدث عن إنسان دخل متحفاً، فرأى تمثالا لامرأة جميلة، تحمل في يديها وعاء يفيض منه الخير والعطاء، ما إن يمر أمامه حتى يستوقفه بروعته، فيتأمل بهاءه، ويحس أن التمثال ينظر إليه ويبتسم له، يؤخذ بهذه الابتسامة فيجلس قبالة التمثال حالما بأنه يحاور المرأة، التي خصّته بابتسامتها، يمسك بيدها ويحس نبض عروقها، تدعوه للشرب من إنائها، يشرب فيغرق في أوهامه، فقد تحول التمثال إلى زوجة له، تحمل بين يديها طفلهما، لكن سرعان ما ينتبه لنفسه، مستيقظا من حلمه، فيخرج مسرعا!!

يلتقي في هذه القصة الحلم بالأسطورة، ومن المعروف أن معظم أحلامنا كالأسطورة لا تراعي المنطق المنظم، كما لا تهتم بمقولة الزمان والمكان، وكما يقول إريك فروم بأن هناك تشابها ينتج عن قدرتنا الإبداعية في النوم كما في الأساطير التي هي أقدم مبتكرات الإنسانية، إذ ثمة حقيقة واقعة تؤكد بأن الكثير من أحلامنا شبيه بالأساطير، سواء من حيث الأسلوب أم من حيث المضمون كذلك يشتركان، حين ينتقلان من الشفاهية إلى الكتابة بكونهما يكتبان بلغة واحدة هي اللغة الرمزية (13)

ثمة لقاء واضح مع أسطورة بغماليون، فقد تحول التمثال، عبر الحلم، إلى امرأة، يتزوجها الرجل المتفرج، وتنجب له طفلا، كما حدث في الأسطورة.

وقد بدا لنا الشكل الفني مقنعا، حين جعل الكاتب حلم اليقظة إطارا فنيا لقصته، فرأينا بث الحياة في التمثال مقنعا، ساعده في ذلك لغة رمزية استطاعت أن تجسد الحلم في الواقع، وتبديه في حلة مقبولة.

لو تأملنا نقاط الاختلاف بين القصة والأسطورة للاحظنا اختفاء تفاصيل الأسطورة، فقد أغنانا الحلم عن مساعدة الآلهة (إفروديت) وبالتالي فقد اختفت الأجواء الأسطورية التي لمحناها لدى الحكيم، بناء على ذلك يعود التمثال إلى جموده بانتهاء الحلم، فلا نجد تفاصيل حياتية، وإن كانت هذه القصة تقدم هما حياتيا، يؤرق الشباب، إنه هم الحب والاستقرار العائلي، وبذلك حقق هذا الحلم رغبات مكبوتة في أعماق الرجل، فوجد فيه نوعا من التعويض النفسي عن حرمانه، وبعض العزاء، فقد استطاع تفريغ المكبوت عبر حلم اليقظة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير