تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لذلك يمكننا القول بأن توفيق الحكيم يسقط في هذه المسرحية صراعه الداخلي بين الرغبة ببقاء الفن بمعزل عن الحياة وبين ربطه بالحياة، إنه صراع يشمل الكثير من المبدعين الذين يرغبون في تقديم فن خالد وجميل، يحمل هم الإنسان ولا يكون نقيضا لما هو أبدي يهب الفن خلوده، ولعل هذا الصراع كان على أشده منذ الأربعينات (الفترة التي ظهرت فيها هذه المسرحية) لذلك نجد الحكيم يعقد مقارنة بين الفنان والآلهة فينوس، أبولون ليعلن أن الفنان يبدع الكمال، في حين تبدع الآلهة بشرا ناقصا يصيبه المرض والشيخوخة والموت، فيبدو كأنه متحمس إلى قضية "الفن للفن" لا يرغب في ربط الفن بالحياة، لكن هذه المعالجة الرومنسية المثالية لهذه القضية لا تصل بنا إلى شاطئ الأمان، إذ نلمح ترددا لدى توفيق الحكيم، لذلك وجدنا بغماليون في خاتمة المسرحية يدعو الآلهة مرة ثانية لتهب تمثاله الحياة، وحين لم تستجب يحطم هذا التمثال لبيّن استحالة الفن بمعزل عن الحياة، وقد لاحظ د. محمد يوسف نجم أن الصراع بين الفن والحياة من القضايا التي أرّقت الحكيم، إذ عالجها في العديد من مسرحياته وقصصه ومقالاته في "راقصة المعبد"و"عهد الشيطان" و "راديوم السعادة" و "الرباط المقدس" و "إيزيس" (10)

تجسد "بغماليون" أعماق توفيق الحكيم أيضا وما يعتلج فيها من صراع يتجلى في علاقته بالمرأة! هل الارتباط بها يشكل خطرا على الفنان ونقيضا للفن، إذ يحس المتلقي بأن المؤلف يرى المرأة كائنا تافها، همها في الحياة محدود بما هو مادي (المال، القوة، الجمال) لذلك وضعها في إطار الشك والخيانة، وجعلها مصدر شقاء للفنان بغماليون.

بغماليون بين توفيق الحكيم وبرناردشو:

ثمة لقاء واضح بين مسرحية بغماليون لبرناردشو وبغماليون لتوفيق الحكيم في فكرة التحوّل من تمثال إلى امرأة، ومن امرأة فقيرة إلى امرأة ارستقراطية، وهذه الفكرة نستطيع أن نردّها إلى الأسطورة اليونانية، وبذلك يشتركان في المتح من منبع واحد، لكن من الطبيعي أن يؤثر السابق باللاحق، خاصة أن كلا الكاتبين كتبا في جنس أدبي واحد هو الفن المسرحي، ولا شك أن توفيق الحكيم قد استفاد من البناء المسرحي لدى برناردشو، لكن كما يقول الحكيم نفسه "يبدأ الفن دائما من النقل وينتهي إلى الأصالة، يبدأ من المحاكاة وينتهي إلى الابتكار" لذلك سنجده يقدم مسرحية تختلف عن مسرحية شو كل الاختلاف، فقد لاحظنا وفاءها لجو الأسطورة (آلهة، شخصيات خارقة، معجزات ... )

كذلك وجدنا الفنان في مسرحية الحكيم مندمجا، رغم تردده، بفنه إلى درجة العشق والرغبة بالتوحد به والزواج، وقد رأى د عز الدين المناصرة "أن بغماليون أكثر واقعية من هيجنر، رغم الواقعية الشكلية التي تطغى على مسرحية شو ورغم الرومنسية المفرطة في مسرحية الحكيم دون أن تفقدها طابعها ... " (11)

أعتقد أن د. المناصرة لم ينتبه إلى أن برناردشو قدّم لنا بطلا عالما في مسرحيته لا فنانا، وثمة فرق بين نظرة الفنان الذاتية التي تنعكس على علاقته بإبداعه حيث يراه عملا جميلا لا يضاهى، يمثل استمرارا لذاته، أما العالم فكثيرا ما ينظر إلى اختراعاته نظرة موضوعية، لأن ما يبدعه ينفصل عن ذاته، ينتمي إلى العالم الخارجي، لذلك لا نستطيع أن نقول إن مسرحية الحكيم أكثر واقعية من مسرحية برناردشو مادامت كل واحدة منهما تمثل عالما منفصلا عن الآخر، وإن كان ثمة لقاء في تفضيل بغماليون الفن الخالد عند الحكيم، في لحظة من اللحظات، على الإنسان الزائل، كما فضّل هيجنر العلم على الارتباط بالإنسان، وإن كنا هنا نستطيع أن نضيف ميزة خاصة ببرناردشو هي إضفاء البعد الاجتماعي على المسرحية، فرفض الزواج ليس بسبب تفضيل التفرغ للعلم وإنما بسبب انتماء أليزا الفقيرة إلى طبقة غير طبقته، لذلك نعتقد أن مسرحية برناردشو أكثر واقعية من مسرحية الحكيم التي بدت أكثر وفاء لجو الأسطورة، كما بدت شخصياته المسرحية أكثر تجريدية من شخصيات شو.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير