تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

" وأفرطت في الشراب حتى دار رأسها واعترفت له بأن اسمها الحقيقي هو شلبية وقصت عليه نوادر من عهد البلينا، الطفولة و المياه الراكدة والشباب و الهرب ... كان أبي عمدة ... كان خادم العمدة " (1)

إن نور رغم مهنتها فإنها تعيش بعيدة عن الناس، وعن أعينهم تعيش بجوار القبور، لم يزرها أحد من قبل فهى حريصة على عدم ود الناس لها بمنزلها، أو أن يعرف عن سكنها أحد من الناس غير سعيد مهران الذي أحبته، وحاولت ألا تفتقده وتخسره بالرغم من إحساسها بنفوره الدائم منها، ولكنها حاولت أكثر من مرة أن تبعده عن الإنتقام

"البيت الوحيد في الشارع، تحته وكالة خشب، ووراءه القرافة .. لا يعرفني هناك أحد، ولم يزرني فيه أحد، ستكون أول رجل يدخله، وشقتي في أعلى دور " (2)

ونجد أن سعيد مهران لم يتخذ من بيت نور إلا مكانا ليختبىء فيه ويبعد عن أعين البوليس

"أنا هنا في مكان آمن مطمئن لن تمتد إليه أعين البوليس " (3)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

1 - رواية اللص و الكلاب – نجيب محفوظ / دار القلم 1973 (ص 100)

2 - نفس المصدر (ص 58)

3 - نفس المصدر (ص 116)

(4)

سعيد مهران شك في كل من حوله؛ لأنه أصبح مريضا نفسيا وخاصة في موقفه من النساء بعد خيانة نبوية له مع عليش سدره، لكنه لم يشك لحظة في خيانة نورله، وعلى الرغم من المكافأة المالية التي رصدتها الشرطة فيمن يساعدهم أو يدلهم على مكانه، فإنه كان يعلم مدى حب ووفاء نور له رغم أنها تبيع جسدها وأعز ما تملك للرجال كل لحظة إلا أنها لم تفكر في خيانة سعيد مهران، ولعل هذا الموقف من وجهة نظري أول شيء فعله الكاتب لينصف نور وينصف المرأة ويجعلها هنا صاحبة مبدأ فالوفاء أصبح عملة نادرة

" هل يمكن أن تلعب المكافأة الموعودة بقلب نور؟ حقا تلوث دمه بسوء الظن لآخر قطرة، و الخيانة في عينيه أضحت كرائحة الغبار في اليوم الخماسيني ولكن رغم ذلك كله فنور لن تخونه، ولن تسلمه غلى البوليس طمعا في مكافأة، فقد ضجرت من المعاملات وتقدم العمر وباتت تحن إلى عاطفة إنسانية خالصة " (1)

فعلت نور محاولات كثيرة لتغير ما وصل إليه سعيد مهران من مرض نفسي تجاه الأخرين، والحرص على الإنتقام منهم ففكرة الإنتقام ظلت تراوده طوال الوقت لكنها في النهاية لم تنجح بالرغم من كل ألوان العطف و الحنان و الحب و الأمل صنعت من كل هذا كأسا وأرادت أن تسقيه لسعيد مهران؛ لينزح منه الغل و الإنتقام وتنجيه من مصير الضياع الذي ينتظره، وأكتفى المؤلف نهاية المطاف باختفاء نور دون أي إشارة لسبب الإختفاء أو إعطاء مقدمة للقارىء بهذا الإختفاء

لكنه جعل سعيد مهران يندم على فراقها ويحس بقيمتها ويتمنى لو أنه أفدى حياته لترجع له

" لن يرى نور مرة أخرى، وخنقه اليأس خنقا،ودهمه حزن شديد الضراوة لا لأنه سيفقد عما قرييب مخبأه الأمن ولكن لأنه فقد قلبا وعطفا وأنسا، وتمثلت لعينيه في الظلمة بابتسامتها ودعابتها وتعاستها فانعصر قلبه، ودلت حاله على أنها كانت أشد تغلغلا في نفسه مما تصور، إنها كانت جزءا لا يصح أن يتجزأ من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية، وأغمض عينيه في الظلام وأعترف اعترافا صامتا بأنه يحبها، وأنه لايتردد في بذل النفس ليستردها سالمة " (2)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

1 - المصدر السابق (ص 123)

2 - المصدر السابق (ص 126)

(6)

وبإختفاء نور جعلنا الكاتب نتعاطف مع هذه الشخصية التي لم تذق طعم الراحة في حياتها حتى وعندما وجدت سعيد مهران مرة أخرى، وجدته مطرودا من البوليس وهذا هو نجيب محفوظ في نظر الدكتور طه وادي يجعل المرأة البغي مغلفة بإطار إنساني تكسب عطف القارىء يقول:

" هكذا تلقانا صورة (البغي) في روايات نجيب محفوظ دائما مغلفة بإطار إنساني نبيل، ليؤكد أن الظروف الاجتماعية مهما تعقدت، لا تجتث كل ما هو إنسان في الإنسان، وإنه لضرورات العيش الصعبة يأثم الجسد،ولكن تظل الروح محتفظة بجوهرها " (1)

حتى أنني قد وقعت على عبارات وجمل لنجيب محفوظ في مجلة الهلال 1970 قسم فيها المنحرفات وعلل لأسباب انحرافهن في المجتمع بل لمحت في كلامه الدفاع عنهن، وهذا مأخذ على كاتبنا الكبير لأنه ليس له الحق في الحديث عن أعماله طالما أنه قد ترك قلمه وفرغ من كتابة الرواية حتى لا تفقد قيمتها وسط النقاد يقول:

" هناك منحرفات فاضلات ومنحرفات غير فاضلات و الواقع أن كثيرا من المنحرفات في رواياتي، يرجع انحرافهن إلى أسباب اجتماعية، المتهم وراءهن ليس سلوكهن بقدر ما هو المجتمع الذي يعشن فيه، إن الغالبية العظمى منهن يرتكبن الإثم بسبب الفقر .. بسبب المجتمع " (2)

نهاية الكلام أنا أجد أن نجيب محفوظ لم ينصف المرأة كاملا، و لم يظلمها أيضا طوال الأحداث، لكن تجسيدها بهذه الصورة في الرواية مال للظلم أكثر منه للمناصفة؛ وذلك لأن النموذج الأول نبوية كانت خائنة، وجعلها دائما مخفية غير ظاهرة لا نعرف عنها شيئا إلا من خلال منطقة اللاوعي لدى البطل، والنموذج الثاني نور كانت إمرأة مومس ولم تظهر لنا في الرواية إلا في الفصل الخامس وأول ماظهرت كانت لها ضحكة لعلعت وفستان عار ونراها منبوذة من المجتمع لمهنتها القذرة لكن الموقف الوحيد كما ذكرت من قبل الذي قد يجعلنا نتعاطف معها ونظن أن الكاتب لم يظلم المرأة طوال الأحداث هو وفائها للبطل رغم المكافأة المالية التي رصدت لمن يقبض عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

1 - صورة المرأة العربية في الرواية المعاصرة، طه وادي – مركز كتب الشرق الأوسط

(ص 302)

2 - مجلة الهلال 1970، نقل عن كتاب الدكتورة فوزية العشماوي (116)

** سنكمل النموذج الثاني فيما بعد

**جل الاعتماد كان على كتاب الدكتورة / فوزية العشماوي (المرأة في أدب نجيب محفوظ)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير