تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد عمِّرت البصرة بالأسواق الممتلئة بسلع الشرق الغنية، ونما فيها سوق المربد الذي كان في الأصل سوقا للإبل، ثم تحوَّل مع الزمن إلى سوق عظيمة للفكر والأدب، تُتخذ فيها المجالس، ويخرج إليها الناس كلَّ يوم، وتتعدَّد فيها الحلقات، ويتوسَّطها الشعراء والرجَّاز، يكفي أن تكون منطلق شعر النقائض ذي الشهرة الواسعة، ويقال إنَّ المربد صار أكبر أسواق العالم آنئذ، وهو الذي ورث سوق عكاظ في الجاهلية، فصار يعرف بـ"عكاظ الإسلام". وهكذا صارت البصرة منذ صدر الإسلام مقراًّ للعلماء والحفَّاظ والقرَّاء، ولم ينبغ شاعر أو أديب أو كاتب ولا برز عالم بارع إلاَّ وقصد البصرة مفيدا أو مستفيداً.

كانت البصرة تعجُّ في هذه الآونة من بداية القرن الثاني الهجري بمراكز العلم والمعرفة، وكان بها مركزان هامان هما: المساجد، وسوق المربد. وعَرفت لمركزيها هذين إقبالا من الفقهاء والمحدِّثين واللغوِّيين والمتكلِّمين والشعراء، وهكذا راح الخليل يختلف إلى هذه الحلقات، يدفعه إلى ذلك حبُّ العلم وتردِفه مواهبه ... ذكاء خارق، وحافظة فيَّاضة، واستقامة مشهودة. وكان من أبرز أساتذته في هذه الحلقات عالمان مشهوران هما: عيسى بن عمرو الثقفي، وأبو عمرو بن العلاء.

ولعلَّ اللغة العربية جمعا وتأليفاً وضبطا استقطبت اهتماماته لعوامل اجتماعية وثقافية منها: ما أخذ يشيع من لحن في اللغة؛ لكثرة الدخيل الأجنبي الوافد مع الأعاجم وغيرهم، الذين أخذوا يدخلون الإسلام ويمتزجون بالشعوب العربية بكلِّ ما يحملونه من تقاليد، وعادات، ولغات، وأفكار، والخليل لم بنظر إلى هذه الوفادة من جانبها السلبيِّ، بل نظر إليها من جانبها الإيجابيِّ أيضا، فاحتكَّ بهذه الشعوب، وتعلَّم منها، وأخذ من مناهجها وأفكارها.

وهكذا انكبَّ على علوم هذه الشعوب المستعربة مثل العلوم الرياضية والإيقاع، ولعلَّه قرأ مترجمات للمنطق اليونانيِّ بحكم العلاقة الحميمة التي كانت بينه وبين ابن المقفع الفارسيِّ، الذي قال عنه الخليل: «رأيت رجلا عقله أكبر من علمه» وهو يعبر بذلك عن هذا العقل الجبار الذي كان يهضم كلَّ الثقافات، ثم يضيف إليها من تفكيره وبُعد نظره، فخالف بذلك الكثير من معاصريه الذين يتلقَّون هذه العلوم بدون إضافة، وهكذا وفَّر له المناخ الثقافيُّ والاجتماعيُّ البصريُّ المجالَ لينمِّي مواهبه وعلومه.

فما هي المجالات التي برز فيها هذا العالم العبقري؟

الخليل متعلِّما:

نستطيع القول إنَّ الخليل بدأ تعلُّمه بالبصرة؛ ذلك أنَّ طفولته المبكِّرة في عُمان لم تسمح له بأكثر مما يتعلَّمه الطفل عن والديه من مبادئ التربية، والأخلاق والدين، وقد بدأ بالبصرة يختلف إلى الكُتَّاب صبيا، وبدت عليه علامات الذكاء والنجابة منذ صباه، وقد استدللنا على ذلك من تفوُّقه العلميِّ، ثم من خبره مع الفرزدق حسبما مرَّ بنا، فإنَّ جواب الخليل للفرزدق، رغم شهرته، ينمُّ عن ذكاء وسرعة بداهة، وجرأة في معالجة المواقف الحرجة، ومما لا شكَّ فيه أنَّ الخليل انفتح على بيئة البصرة التي بهرته بما تضجُّ به من مراكز العلم المسجدية منها، والمربدية، والبدوية، والحضرية.

وقد كان منظر الناس متحلِّقين في المساجد حول الشيخ يعلِّمهم وينوِّرهم من المناظر التي أثَّرت في نفس الخليل منذ صباه، وحرَّكت في أعماقه الرغبة في السير في هذا الطريق، وحرَّكت في أحنائه الحبَّ والميل إلى العلم والعلماء، وقد أثَّر في نفسه - كما تدل الأخبار - منظر الحسن البصريِّ، هذا العالم الورع الجليل، حين مرَّ بحلقته وهي مكتظَّة بالمتلقِّين، فعبَّر عن هذا الإعجاب بقوله: «لا إله إلاَّ الله، لقد كاد العلماء أن يكونوا أرباباً، كلُّ عزٍّ لم يوطد بعلم فإلى الذلِّ يؤول» [15].

ويفهم من هذا النص أنَّ الخليل أدرك بعقله النيِّر أبعاد هذه المنزلة وهو دون العاشرة؛ لأنَّ الحسن البصري توفي سنة (110هـ)، والخليل كما هو الراجح ولد سنة (100 هـ).

ولعلَّ في هذه المقولة ما يشير إلى الطريق الذي اختاره منذ صباه؛ إذ لم تبهره الجوانب المادية من حياة الناس، ولا بهرج المال وزخارفه، فقد رأى العزَّ الحقيقي في العلم، الذي ينظر الكثير إليه باستخفاف وزراية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير