تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأخذ الخليل يختلف إلى حلقات العمل في مساجد البصرة، ولعلَّ بداية دراسته كانت على يد أيوب السختياني الذي تلقَّى عنه الحديث والفقه، وكان السختياني من مشاهير فقهاء ومحدِّثي البصرة، وهو الذي يقول عنه الحسن البصري: «أيوب سيِّد شباب أهل البصرة»؛ لِما كان يتَّصف به من ورع وصلاح وزهد وعبادة، وكان الخليل إذ ذاك حدثاً، وقد راقه ما كان يسمعه من شيخه هذا، فاستمع إليه طويلاً، وتأثَّر بنسكه وزهده، كما أعجب من قبلُ بالحسن البصري، وكان أيوب السختياني يقول: «تعلَّموا النحو فإنَّه جمال للوضيع، وتركه هجنة للشريف». [16]

وهكذا راح الخليل يتنقَّل بين حلقات اللغة العربية وعلومها وآدابها، وشدَّه منها حلقات النحو التي كانت آهلة بالطلاَّب، فكان الخليل كغيره من الطلاَّب يتنقَّل بينها، ولعلَّ النحو كان في هذه الآونة من العلوم المستحدثة التي استقطبت الأنظار، فهي مدار العلوم كلِّها، وآية ذلك ما شاع بعد ذلك من منافسة مدرسة البصرة النحوية, ومدرسة الكوفة، وكانت بيئة البصرة بتكوُّنها الديموغرافي تدفع إلى العناية بهذا العلم.

ولم يجلس الخليل إلى أستاذ واحد، وإنَّما كان ينتقل من شيخ لآخر، ومن حلقة في المسجد إلى أخرى في المربد، ومن معلومة يتلقاها من شيخ إلى أخرى يدوِّنها من أعرابي في البادية ... وهكذا، وقد كان يعبِّر عن وجوب الحرص في تلقي العلم بقوله: «لا يعلم الإنسان خطأ معلِّمه حتى يجالس غيره».

ومن شيوخه المشهورين الذين وجَّهوه هذه الوجهة اللغوية - فيما يبدو - عيسى بن عمرو الثقفي، المقرئ النحوي الذائع الصيت في علم القراءة، وكان الخليل به معجباً، طالما أشاد بعلمه, وبكتابه "الجامع والإكمال"، كما يبدو أنَّ تأثير هذا الإمام اللغوي تجلَّى في اصطناعه القياسَ أصلا من أصول النحو، فقد كان معروفا أنَّ عيسى بن عمرو كان ممن يصطنع القياس.

وممن اشتهر في عهده أبو عمرو ابن العلاء، وهو أحد القرَّاء السبعة، ومن أعلم الناس في عصره بالقرآن مع صدق وثقة وأمانة ودين، وكانت له حلقة شهيرة في المسجد الجامع بالبصرة، يجتمع إليه فيها رجال القراءة والأدب واللغة والنحو.

وكان أوَّل اتصال للخليل بهذا العالم الجليل يوم هبط البصرة وهو يعتزم مناظرته بعد أن سمع عنه رأيا لم يوافقه عليه؛ ولعلَّ حماس الشباب كان يحدو به إلى ذلك؛ ولكنَّه عدل عن رأيه وظلَّ يستمع إليه، فسأله بعض أصحابه عمَّا ردَّه عن عزمه فقال: «هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد» [17].

هذا الخلق الكريم هو الصاحب الذي التزم به الخليل فلازمه، حتى بات هو الطابع الغالب على سلوك الخليل في حياته كلِّها. هذا الشعور بالتواضع هو السرُّ الذي يقف وراء الاجتهاد، الذي لم ينقطع قطُّ عن الخليل في دنيا التحصيل، فقد ظلًَّ طول حياته متعلِّما، منقطعا إلى التعلُّم الانقطاع كلَّه، لم يشتغل بدنيا، ولم ينصرف عن الكتب إلى جاه أو منصب.

فالخليل كما يقول أحد الدارسين المعاصرين متعلِّم من النوع الذي لا يؤمن بانتهاء مدَّة العلم، كما أنَّه من أوائل الذين ابتدعوا قضية تطوير التعليم.

ومن خلال تتبُّع أخباره وأقواله وأفعاله وسيرته، نجد المقولة الرائعة عن العلم: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلَّك، ثم أنت بإعطائه إياك بعضه مع إعطائك إياه كلَّك على خطر». وقد كنَّا نسمع أو نقرأ هذا القانون العلميَّ عن العلم والتعلُّم للغزاليِّ، ولكن الأجمل من هذا أن ينتسب إلى الخليل.

ويمكن القول إنَّ الخليل من أوائل من جمعوا العلم للحياة، أو العلم من أجل العلم لا من أجل الكسب والرياء وحبِّ الظهور، ولذا قيل عنه كان من المنقطعين للعلم. ([18])

ولكن هل سلم الخليل من الناس وانتقاد ما توصل إليه من نظريات علمية باهرة؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير