تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كان طبيعيا أن يقابَل مثل الخليل بالتنقيص والإساءة؛ لأنَّه مبدع، وكلُّ مبدع مرفوض مخذول من الناس؛ لأنَّ من طبيعتهم الرضى بالمعتاد، والسير على المنوال، وتقليد السابق، وكلُّ من حاول الخروج عن الجماعة برأي جديد أو فكر وليد، اتهموه وفسَّقوه وبدَّعوه، والتراث مليء بأقاصيص التفسيق والتكفير لكلِّ من حاول التجديد في ميدان السياسة، أو الاجتماع، أو الفكر بصفة عامة، وفي أخبار الخليل ما يشير إلى معاناته من الناس الذين لم يتقبَّلوا إبداعاته في مجال اللغة والشعر، والنحو والإيقاع، ولم يُقبلوا على آرائه واختراعاته في تشكيل الحروف وضبط الكلمات، إلاَّ بعد دهر طويل من وفاته.

لقد تعوَّد الناس أن يشكِّلوا الكلمات بالنقط حسبما توصَّل إلى ذلك أبو الأسود الدؤلي، ولكنَّ الخليل وجد أنَّ هذه النقط كثيرا ما اختلطت بالنقط في الحروف المعجمة مثل: الياء والثاء والباء، وغيرها، فلا يميز بين نقط التشكيل ونقط التعجيم إلاَّ بالألوان: اللون الأسود للتعجيم، واللون الأحمر للتشكيل، وهكذا هداه تفكيره بعد طول تأمُّل إلى الرمز للحركات بعلامات أخرى تتميز في أشكالها عن النقط، فرمز إلى حركة الضم في الكلمة بواو صغيرة (و) مكوَّنة في أعلى الحرف، وللفتحة بألف صغيرة (ا)، وبالكسر ياء صغيرة (ي)، وقد رُفضت هذه الطريقة من معاصريه خوفا أن يتغير بذلك رسم القرآن، وظلَّ رفضهم هذا دهرا بعد وفاته، ثم تعوَّد عليه الناس وقبلوه وأقبلوا على استخدامه حتى يومنا هذا.

«وتوفي وفي بلاد الإسلام من لم يرض بها، وهم أهل الأندلس، تعصُّبا أو لغير ذلك، ثم أذعنوا لحسنها، بل أذعن أصحاب القراءات لها، فأدخلوا في القرآن ذلك بعد وفاة الخليل بدهر» [19].

إنَّ نزعة التأمُّل التي وُهبها الخليل ساعدته على تعمُّق عادات الناس وطبائعهم واختلاف أخلاقهم، ومكَّنه ذلك من معرفة الطرق السلوكية التي ينبغي أن تُستخدم معهم حتى تمكِّنه معاشرتهم من استجلاب رضاهم ودفع أذاهم.

كان يَنظر إلى الناس نظرا عميقا، ويجعل موقعه منهم تبعا لصنفهم، فالمعتدي عليه لا يمكن إلاَّ أن يكون واحدا من ثلاثة: أعلى منه مقاما، أو مساويا له في الرتبة، أو دونه. وكلٌّ من هؤلاء يستحقُّ أن يسكت عن هفواته، وقد لخَّص هذه النظرية في هذه الأبيات الحكيمة:

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب

وإن كثرت منه عليَّ الجرائم

وما الناس إلاَّ واحد من ثلاثة:

شريف، ومشروف، ومثل مقاوم

فأمَّا الذي فوقي، فأعرف فضله

وأتبع فيه الحقَّ، والحقُّ لازم

وأمَّا الذي مثلي، فإن زلَّ أو هفا

تفضَّلت، إنَّ الفضل بالعزِّ حاكم

وأمَّا الذي دوني، فإن قال صنت عن

إجابته عرضي، وإن لام لائم [20]

إنَّ التعمق في الدين وفهم العلم كلاهما ساعد الخليل ليتحسَّس أبعاد النفس الانسانية، ففهم نفسه أوَّلا ليُفهم الناس بالتبع، فلم ير لنفسه صلاحا أقوم من أن يعامل الناس كلاًّ بما يستحقُّ، على أساس أن يغمط من حقِّ نفسه، ويتسامح في مرضاتها، ويكبت رغباتها، وكيف لا يحب شخص مثل الخليل التواضع وإِلاَنةَ الجانب، ويعرف فضل من يكبره، ويعفو عن زلة من يساويه، ويترفَّع عن لؤم من تدنى عنه، إنَّ سفيان بن عيينة لم يكن مغاليا حين قال: «من أحبَّ أن ينظر إلى رجل خُلق من ذهب ومسك فلينظر غلى الخليل ابن أحمد». [21]

وروى ابن خلِّكان أنَّ الخليل كان يقطّع بيتا من الشعر فدخل عليه ولده في تلك الحال، فخرج إلى الناس وقال: إنَّ أبي قد جنَّ، فدخل الناس عليه وهو يقطّع البيت فأخبروه بما قال ابنه فقال:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني

وعلمتُ أنَّك جاهل فعذرتكا [22]

إنَّ التأمُّل والتفكير العميق سمة لا تفارق الخليل في كلِّ مواقفه عظُم شأنها أو صغر، لا يسارع إلى الجواب إلاَّ إذا قلب السؤال فأخرج احتمالاته وأبعاده، ذلك هو منهجه الفكري الذي يقوم على التوليد والتفريع والاستنباط والاستقراء، فعل من يبني أقواله على قواعد متينة من التفكير والتدبير.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير