حين وصل أخي الأستاذ الكبير أحمد بن يحيى في مداخلته العصماء إلى قوله:" وعليه فإني أدعو الدارسين في هذا الحقل إلى أن يولوا مثل هذا الأمر جل اهتمامهم؛ فإنه مجال خصب للدراسة واستخلاص نتائج مثيرة وموضوعية في الوقت نفسه "، خلت أنني عنيت، على رغم أنه كان يخاطب أستاذنا د. عمر خلوف، فلم أتوان عن الرد، إذ الدعوة كما يبدو موجهة إلى جميع الدارسين في هذا الحقل. إن ما أدى إلى إعجابي بهذه المداخلة هو الفهم الدقيق والمرهف "لإحساس الشاعر الجاهلي وروحه التي تفرض مثل هذه الأمور التي نراها نحن مستكرهة مستثقلة".
وهنا فأني أود طمأنة أخوي الأستاذين الضاد وخشان إلى أن الأستاذ أحمد يعرف تماما أنه " لو قرأنا البيت و الشطر الثاني خاصة قراءة عروضية بإيقاع عادي تعودت عليه آذاننا من خلال الإيقاع المطّرد لبحر الطويل لأحسسنا بشيء من الثقل". فهذه القراءة هي قراءة المعري وإبراهيم أنيس وقراءتنا نحن معشر العروضيين، ولا خطل في هذه القراءة. ومع ذلك فقد أحسست وكأن الأستاذ أحمد يدعونا إلى التوجه إلى مدى أبعد في الدراسة العروضية، تلك الدراسة التي تتجاوز متطلبات السبب والوتد وما صلح من الزحاف أو قبح، أو ربما كأنه يدعونا إلى تبني منهج حازم القرطاجني الذي لامس هذا الجانب من الدراسة أو كاد في كتابه منهاج البلغاء.
ما يدعو إليه أخي أحمد إذن يدخل في باب الإنشاد، وهو باب قل من كتبوا فيه أو أولوه عنايتهم. غير أني أستحضر الآن قولا لمسكويه أورده أبو حيان التوحيدي المتوفى سنة 414 هـ في كتابه الإمتاع والمؤانسة، قوله:"إن المطبوع من المولدين يلزم الوزن الواحد ولا يخرج عنه ما طبعه يطيع ذلك. ولكن ربما سمعنا للشعراء الجاهليين المتقدمين أوزاناً لا تقبلها طباعنا، ولا تحسن في ذوقنا، وهي عندهم مقبولة موزونة، يستمرون عليها كما يستمرون في غيرها. كقول المرقش:
لابنة عَجلان بالطفّ رُسومْ ... لم يتعفّيَن والعهد قديمْ
وهي قصيدة مختارة في المفضليات ولها أخوات لا أحب تطويل الجواب بإيرادها ـ كانت مقبولة الوزن في طباع أولئك القوم وهي نافرة عن طباعنا، نظنّها مكسورة.
وكذلك قد يستعملون من الزحاف في الأوزان التي تستطيبها ما يكون عند المطبوعين منا مكسوراً، وهي صحيحة. والسبب في جميع ذلك أن القوم كانوا يجبرون بنغمات يستعملونها مواضع من الشعر يستوي بها الوزن. ولأننا نحن لا نعرف تلك النغمات إذا أنشدنا الشعر على السلامة لم يحسن في طباعنا والدليل على ذلك أنا إذا عرفنا في بعض الشعر تلك النغمة حسن عندنا وطاب في ذوقنا كقول الشاعر:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطلّ
فإن هذا الوزن إذا أنشد مفكك الأجزاء بالنغمة التي تخصه طاب في الذوق، وإذا أنشد كما ينشد سائر الشعر لم يطب في كل ذوق ".
ومن هنا يخيل إلي أني فهمت سر تقبل أستاذنا أحمد للشاهد الذي أورده من شعر امرئ القيس.
إن الملاحظ على زحاف القبض في الطويل، ومثله زحاف الخبن في الجزء الثالث من البسيط وكل ما توالى في نسقه شبه ثلاثة أوتاد مجموعة أنه لتجنب الثقل في إيقاعها أن يتعمد المنشد الوقف قليلا بعد وتد أو وتدين ثم يواصل القراءة فلا يحس بثقل توالي الأوتاد. وهذا ربما ما فعله أخي أحمد في أمثال بيت امرئ القيس الذي أورده، وربما أيضا اتبع عن غير قصد نصيحة مسكويه في أن "هذا الوزن إذا أنشد مفكك الأجزاء بالنغمة التي تخصه طاب في الذوق".
وأخيرا، فإن إعجاب أستاذنا أحمد بشعر النابغة ربما كان يعود إلى أنه لم يكثر من زحاف القبض في الجزئين الثاني والسادس من الطويل إكثار امرئ القيس منه. قال المعري: "قل ما تسلم قصيدة جاهلية بنيت على الطويل من أن يستعمل فيها قبض السباعي، أما امرؤ القيس فكثير الاستعمال له، وأما النابغة وزهير وأعشى قيس، فيستعملون ذلك دون استعمال الملك الضليل".
¥