تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

دنى الكولونيل برفق من قبطان السفينة بعد أن انقطع إرسال البث الأرضي وانقطع معه في وجه القبطان وريد الأمل الأخير لهم بالنجاة الذي ظل مرتسماً على وجهه حتى اللحظة الأخيرة .. ثم قال له بصوت خافت خائف: " سيدي اللفتنانت .. هل أطلق صافرات الإنذار الآن؟؟؟ ".

سكت القبطان طويلاً وهو يفكر بعمق بتبعات قرار كهذا ثم قال: " نعم ". ثم استدار نحو أحد البحارة وسأله: " كم عدد ركاب السفينة "؟؟

أجابه البحار على الفور وبكل احترام: أربعمائة وثلاثة وخمسين مع الطاقم سيدي!!.

بدأ القبطان فوراً يتنقل داخل قمرة القيادة ويمر على جميع معاونيه خلف الأجهزة ويصدر قراراته السريعة الحازمة التي لم يعتد على مثلها إلا في أندر الحالات .. ثم أعلن حالة التأهب القصوى وأمر بأن تدار المحركات بشكل عكسي ست درجات نحو الشمال، و أن يتم تشغيل محركات التوربيدات الاحتياطية على الفور .. وقد ارتسمت على وجهه أسوأ علامات الانزعاج والقلق منذ ركب البحر، ومعاونه الكولونيل يمشي خلفه يتحين فرصة مناسبة يختلي بها معه وهو يردد سيدي ... سيدي .. سيدي اللفتنانت!! حتى إذا وصلا وحدهما عند آخر قمرة القيادة الفسيحة مما يلي وجه السفينة، وقفا أمام نافذة زجاجية عريضة تطل على مقدم السفينة .. وأطرق القبطان طويلاً بخشوع وخوف وهو يشعل غليونه ويتمتم بكلمات سمع منها الكولونيل قوله: فليكن الرب في عوننا!! ثم سدد نظره في وسط الظلام هناك أمام السفينة باتجاه المجهول.

قال له الكولونيل بصوت خافت: سيدي .. ما هو الحوت الأعمى؟؟؟

سكت القبطان قليلاً وهو يخفي رعباً ملأ صدره ونظره مسدد بقوة نحو ذلك المجهول ثم قال: " إنه أسوأ إعصار عرفته البحار يا بني ..

إنه بخطورة البركان في اليابسة إن لم يكن أشد .. وهو لا ينشط إلا مرة واحدة كل أربعين سنة. ثم أطرق طويلاً قبل أن يقول:

"لا زلت أذكر المرة الأخيرة حين ابتلع أربعة من السفن الحربية دفعة واحدة .. كنت حينها أعمل ضابط اتصال في الفنار الكبير على الشاطئ وقد التقطت إشارة ضعيفة من إحدى السفن وهم يستغيثون من هجوم حوت ٍ ضخم بحجم جبل عملاق!!!

لم ينجو من الألف ضابط غير أفراد قلائل معظمهم لحقتهم إصابات وتشوهات وإعاقات، أما السفن فقد اختفت تماماً في عمق الماء.

كنا نظن أن هجوماً صاروخياً مضاداً حطم تلك السفن ... أما سكان تلك الجزر الوادعة فهم يعتقدون أن حوتاً عملاقاً يعميه الغضب فيخرج عليهم فجأة من رحم البحار، يبتلع كل ما على سطح الماء، ولا يسكن غضبه إلا عندما يقدمون له قرباناً هي أجمل فتياتهم على الإطلاق يتركونها تعيش له على الشاطئ؟؟؟؟

كانت السفينة العملاقة أشبه ما تكون بفارس من رعاة البقر امتطى ظهر حصان هائج لم يتم ترويضه بعد، فترتفع تارة حتى يكاد جسمها ينفصل عن سطح البحر تماماً ثم تهوي بكتلتها الضخمة في الماء وكأنها تغوص في جوفه ...

وكانت أمواج من المياه تتلاطم هنا وهناك في تجاويف السفينة فتنتزع من بين ممراتها وغرفها من استطاعت من ركاب أو أثاث أو آلات فتلقي بهم في عمق البحر بلمح البصر .. وبدأ الناس وهم يرون أنفسهم يتناقصون هكذا مع كل خطفة؛ يفقدون آخر ما تبقى لهم من أعصاب وحسن تصرف .. وباتت قراراتهم وليدة اللحظة.

ولم يبق في هذه الكتلة الحديدية مكان يمكن اعتباره آمناً لا تصل إليه المياه.

وباءت بالفشل، جميع محاولات القبطان ومعاونيه إبعاد السفينة عن الدوامات التي دخلتها بالفعل في تموجاتها الدائرية وصارت تميل معها حيث تميل .. تماماً كما تميل ذرات من القهوة المجففة في دورانها داخل كوب مملوء بالماء المغلي.

ومما زاد الوضع سوءاً؛ هبوب رياح مطيرة وعنيفة بدأت بزخاتها وكأنها تخترق جدار السفينة وتثقبه.

وفي خضم هذه التطورات المتلاحقة .. كان كريم حاله كحال عدد من الفتيان والرجال الأشداء، الذين وهبوا أنفسهم لمساعدة المحتاجين من الأطفال والنساء وكبار السن. ويأخذونهم لا إلى مكان ولكن في كل مرة ينقلونهم إلى أكثر الأماكن لا تصل إليه المياه .. وتحولت أرضية المطعم الكبير إلى بحيرة عائمة تخفي في قعرها أطناناً من الصحون والملاعق، والطاولات، والجثث .. في ظلام دامس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير