تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الصورة الأخيرة التي انطبعت في خيالها المضطرب قبل أن يحول بين القارب والسفينة موج عاتٍ دفع بالقارب في جوف الظلام والضباب الكثيف ثم انقطع الصوت بينهما تماماً.

إلتفت كريم إلى بقية البحارة والركاب، في الوقت الذي سقط فيه عامود التوازن على ظهر السفينة وهرس تحته عدداً من رجال الإنقاذ وامرأة مقعدة ثم اقتلع حبال قوارب الإنقاذ المتبقية والمتدلية على جنب السفينة من الخارج ليلقي بها وسط البحر ويلقي معها آخر أمل لنقل المتبقين من الأحياء ...

* * * * * * * * * *

نصف ساعة فقط قضاها كريم على ظهر السفينة بعد مغادرة سيرين. . تأكد خلالها أنه لم يعد يسمع صوت أحد من الأحياء غير بعض أصوات استغاثة كانت تأتيه من أماكن بعيدة عجز عن تحديد موقعها .. غير أنه التقط صوت استغاثة خافت من إمرأة قريبة منه ثم حين اقترب من مكان الصوت وجد إحدى عاملات النظافة وقد حشرت وسط غرفة صغيرة بجانب المصعد المتعطل وقد امتلأ ثلاثة أرباع الغرفة بالمياه والطحالب ومخلفات البحر، وبعض أشلاء من الجثث الطافية في منظر مخيف ومقزز للغاية ..

كانت المرأة تبكي وسط الظلام ومن حولها طفلتين صغيرتين تبكيان لا يدري كيف جاءتا مع هذه العاملة المسكينة .. وكل الذي يدريه أن بكاء الطفلتين المحشورتين في هذه الغرفة المحكمة الغلق وبابها مسدود بركام هائل من الحديد، كان يمزق قلبه بكل وحشية، ويشتت تركيزه وهدوءه رغم ثباته .. وكان صوت صافرات الإنذار المتقطع يزيد من عصبيته وجنونه ..

حاول بشتى الوسائل فيما تبقى من ثوانٍ معدودة، الدخول عبر النافذة الوحيدة للغرفة , إلا أن جسمه وصغر الفتحات لم يسمحا بذلك فراح يهز قضبان النافذة الحديدية دون جدوى ثم حاول الإمساك بأطراف أصابعه أطراف أصابع إحدى الطفلتين لعله أن يستخرجها من بين فتحات النافذة، والعاملة المنهكة ترفعها إليه قدر استطاعتها بلا فائدة .. ثم تعالت صرخات الطفلة وبكاؤها .. ثم ارتجت السفينة من جميع نواحيها التي بدت وكأنها مهجورة إلا من أصوات انفجارات بعيدة أو أصوات تحطم الزجاج هنا وهناك .. ثم مال جسم السفينة بشكل غريب، أدرك كريم فوراً وهو يسمع صوت شلالات من المياه الداخلة أن السفينة تغرق، فابتعد عن الطفلتين وعن العاملة وقلبه يتمزق حسرة وألماً عليهم .. كانت هذه هي اللحظات الصعبة التي ظلت راسخة في ضميره الحي .. ثم انطلق يركض باتجاه أقرب منفذ يؤدي إلى السطح ووراءه طوفان من المياه المتدفقة تلاحقه في سباق محموم إلى الموت .. ثم أمسك بكلتا يديه بجهاز البث بقوة وقفز في الهواء قفزة عالية بعيداً عن جسم السفينة ثم ابتلعه البحر واختفى وسط الضباب ....

* * * * * * * * *

فتح عينيه ببطء شديد وقد بهره ضوء الصباح .. ثم أحس وكأنه قد بُعث من قبره ...

يشعر بجوع يكاد يمزق أمعاءه .. وبثقل مزعج في مؤخرة رأسه وكأنه أفاق من غيبوبة طويلة طويلة ..

جال ببصره سريعاً في أنحاء المكان ثم حاول النهوض فاصطدم رأسه بخشبة عريضة فوق سريره آلمته كثيراً .. ثم تنبه إلى أنه مكبل اليدين والرجلين على أطراف السرير بحبال غليظة من ليف الأشجار!!

حاول الخلاص من قيده دون جدوى .. وبينما هو يحاول بعصبية إذ بعدد من الرؤوس تطل عليه من نافذة الكوخ وأشكالها المخيفة يخيل إليه أنها لمخلوقات بدائية من كوكب غريب , وقد لطخوا وجوههم بأصباغ وألوان صارخة ومتداخلة .. وهم يرددون عبارة واحدة بخشوع ظاهر.

كانوا يقولون: " جاد بالان كا "!! " جاد بالان كا "!!!!

ويدخلون إليه داخل الكوخ الواحد تلو الآخر، يضعون أمامه أصنافاً من الفواكه الطازجة ثم ينصرفون بنفس الخشوع الذي دخلوا به، ويأخذون مكانهم من جديد وراء النافذة!!!!

حاول الحديث معهم بلطف مصطنع، وبدأ يكرر على مسامعهم نفس الكلمة التي يكررونها وهو لا يدري معناها " جاد بالان كا " ويسألهم

(من أنتم؟؟) (من جاء بي إلى هنا؟؟) (أين أنا؟؟) (هل .. يمكنكم أن تحلوا قيدي لو سمحتم؟؟) .. إلا أنه أدرك على الفور أن الحديث معهم باللغة العربية لن يجدي نفعاً .. ثم حاول معهم بالفرنسية (إسكو فو باغليه فخونسيه؟؟) (كي إت فو؟؟) (أو سوم نو؟؟) .. يا إلهي حتى هذه اللغة لم تجد نفعاً!! ثم حاول بلغة الإشارة رغم أنه مكبل دون فائدة أيضاً!!!.

وفجأة!!

وبدون مقدمات ولا تمهيد، تراجعوا بسرعة عن النافذة ثم انسحبوا داخل الجزيرة واختفوا بين الأحراش بسرعة القرود وكأنهم رأوا شيئاً أفزعهم!!!

خيم الصمت لحظات على كافة نواحي الشاطئ!! حتى طيور النورس كفت هي الأخرى عن التحليق والرفرفة!!!

حاول كريم أن يمد رأسه خارج الكوخ ليتبين الموقف!! يشعر أن هناك أحداً بالخارج بدأ يقترب من الكوخ ... وقع الأقدام يدل على أنه شخص واحد أو اثنان على الأرجح ...

ثم سمع صوت قعقعة قدور فخارية وأواني في ساحة الكوخ أشعرته أن هناك فعلاً أحد بالجوار يعبث بها!!! وبات قريباً جداً من الكوخ!!

ثم صوتُ تكسير ثمار صلبة بشيء أشبه ما يكون بفأس أو آلة حديدية مماثلة.

إلتزم الصمت وراح يرقب الباب المغلق في ذهول وقلق!!!

* * * * * * * * * *

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير