تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالمجال الأول للقلق (قلق الثدي إلى رضعة طفل) يظهر المرأة الأم المتحكمة بالإخصاب والتكاثر، بما يدل على قلق الحب الأمومي. والمجال الثاني (قلق اللحم لعض النار فيه) يظهر المرأة التي تتقد للتواصل، بما يدل على الحب العشقي الشبقي، قلق الرغبة في التكامل مع الآخر (الرجل/ الناطق الشعري)، قلق يكون فيه الآخر حاضرا حتى بغيابه. وهذه الشبقية في المرأة تكون عامل إثارة للرجل، مما يعيد لها دلالتها الأسطورية كأصل للحياة، وباعث لها ومثير.

والمجال الثاني (مرايا المطر الأعلى لتهويمة شكل) يحتمل دلالتين للخصب؛ عامة وخاصة في آن. أما الصورة العامة فتستقى من رمزية المطر إلى الحياة، وإضافة مرايا تعمق إشارته إلى أصل الحياة، الأصل الذي تنعكس عليه وفيه كل صور الحياة قبل تكوينها وتشكيلها، أي إمكانات انبجاس الحياة من المطر. وباعتبار الصفة (الأعلى) المشيرة إلى السماء، فإن (تهويمة شكل) تشير إلى ولادة العالم من رحم الأرض عبر توالج السماء والأرض بالمطر، «فالمطر هو المني المخصب للأرض» (31).

والمطر ليس رمز الخصب فقط، إنما له مدلول لقاحي أيضا. فهو «ملقح يشبه اللقاح الرجولي» (32). وبهذا تتصل الدلالة العامة بالدلالة الخاصة، تلك المرتبطة برمزيته اللقاحية. فتصبح مرايا المطر متصلة بالرجل وقد انعكست في نفسه غواية المرأة برغبتها المتقدة للتواصل (عض النار). وبذلك يمكن لنا أن نربط (تهويمة شكل) بالطفل الذي قلق الثدي لرضعته.

وفي هذا التشكيل للصور براعة فنية تتأتى من التحام الصور بعلاقات خفية، بحيث تبدو في ظاهرها وكأنها غير مترابطة، ثم ما تلبث بتداخلاتها الإشارية أن تشكل وحدة متلاحمة على غير ما هي عليه في ظاهرها. فالبؤرة اللفظية لهذه الصور هي (مرايا)، وهي تقع بحسب الإضافة في السماء، فتنعكس على سطح السماء المرآوي كل الموجودات الأرضية قبل تشكلها وتكوينها، الموجودات التي هي متعلق القلق ألإخصابي. فهي تشكل العالم الخيالي الذي تتوحد فيه الكائنات الحية (الإنسان الحيوان النبات) والذي يحال إلى كائن حي، شكل واقعي بفعل هذا القلق الإخصاب.

أما بواعث أمر المخاطبة وتحريضها على القلق فترد في المقطع الثاني (واقلقي أكثر حتى لا تظلي مثلك الآن ومثلي)، أي حتى لا تظلي على الحال الذي أنت عليه، وأنا كذلك عليه. ولما كانت صور القلق مجتمعة ومفردة تدل على الخصب والخصوبة فإن حال المرأة والأنا في الحاضر (الآن) هو الحال النقيض، حال الجدب الذي ينبغي تغييره والتحول عنه إلى الخصب.

وثنائية الخصب والجدب في القصيدة تقع في نطاق أوسع، الحياة والموت، الوجود والعدم، ذلك أن القلق بربطه بالخصب لا يسم حالة نفسية متوترة تتطلع إلى التغير، إنما يبدو «علامة من علامات الوجود» (33). إنه قلق ميتافيزيائي، فهو «لا شيء وهو كل شيء، إنه شعور يوضع أمامي، وأمامي فقط مدى ما يكون عليه وجودي من أسى وجدب وإقفار في هذا العالم الذي أعيش فيه» (34). وهذا ينطبق على الصور التي تبنيها القصيدة، إذ تضع أمام المرأة، وأمام الذات، إمكانات ما سيكونان عليه، إمكانات الحياة، فيصير القلق طاقة الوجود، إذ التحول من الجدب إلى الخصب مرتهن بحركة القلق ومحكوم بها.

وهذه الصور لا تسمي الجدب، ولا تشير إليه، بل تلمح إليه بأن وقفت على نقيضه، وهو وفرة الخصب، من حيث تضع أمام المخاطبة إمكانات ما ستكون عليه إن هي قلقت لتجاوز ما هي عليه الآن. ولا يكون الخصب إذ يكون إلا بالاتصال والوصل والتواصل (الأم- الطفل، المرأة- الرجل، الأرض- السماء)، وبدون الاتصال فلا كون ولا تكوين.

وتتجلى الشعرية الشاعرة ببلاغتها العالية في تناسج البنية والحركة والمعنى المتأتي من تجانس المكون البنيوي والمكون النفسي والمكون المعنوي، ذلك أن الشاعر لما ذهب بالقلق من كونه علامة من علامات الوجود إلى كونه منبثق الخصب، اتخذ منه منطلقا للقصيدة ومبتدأ لحركات البنية جميعها، وموجها لإيقاعاتها وأنغامها. ولما رأى في نسيجه الصوتي (نسيج قلق) تباينا بين الشدة واللين، التضاغط والحركية ذهب به من كونه حركة نفسية دالة على الضيق والحصر إلى كونه حركة مراوحة بين الضيق والانفراج، الحصر والانسراح. وذلك بعقد مقابلة خفية بين هذا وذاك عبر المقابلة بين الجدب والخصب. فكان أن أعاد تنسيقه الوجودي ليكون برزخا بين الجدب والخصب وهذا لا ينفي أنه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير