تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عدت إلى حيث أسكن .. محطم الفؤاد .. كسير القلب .. تناولت فنجاناً من الشاي .. ثم تمددت على سريري .. وفجأة .. لمع برق من بعيد .. من جهة الشرق .. من الغرب .. من الشمال والجنوب معاً .. من كل الجهات .. أرعدت السماء .. عصفت الرياح .. تصايحت الديكة .. وامتزج هذا بذاك .. وتكونت النغمات الأولى في أنشودة الفناء ولحن الدمار .. وبدأت الطبيعة رقصة الموت ..

هطلت بغزارة .. بلا تدريج .. سالت المياه على الأرض مكونة بركاً صغيرة سرعان ما كبرت .. وصارت سيولاً جارفة .. واندفعت كمعتوه .. تدمر كل شيء أمامها .. كان لها مع بني البشر ثأراً .. طاردتهم في الشوارع .. دخلت عليهم من أبواب البيوت ونوافذها .. تصايح الناس .. علا صراخهم وعويلهم .. والريح تلطمهم في قسوةٍ وعنف ..

قال قائل منهم:

- المياه تحاصر القرية ..

- إنه الطوفان ..

- لا بل هي الطامة الصغرى ..

- بل هي الكبرى .. يبدو أن السماء قد تهتكت .. لقد أصابها البلى ..

- أأخرجت أطفالك الصغار؟؟ .. دع كل شيء وأخرجوا ..

وتهاوت البيوت .. الواحد تلو الآخر .. لم تستطع الصمود أمام الطوفان العارم .. ذابت قواعدها وتحللت في الماء وانهارت .. كأنها بيوت رملٍ بناها طفل عابث ..

ساد الفزع قرية (لا بأس) .. الكل يتساءل: أين المفر؟؟ فتجيبهم الرياح في سرعة وقسوة: .. لا مفر .. لا ملجأ .. لا مهرب ولا ملاذ ..

- هيا يا زوجي لنخرج أمتعتنا إلى فناء البيت كيلا تنهار عليها جدران الحجرة ..

ضحك الزوج في ألمٍ وسخريةٍ .. وشر البلية ما يضحك .. وقال بمرارة وتهكم:-

- فناء البيت؟؟ .. وأين هو فناء البيت؟؟ .. لم يعد هناك فناء ولا بيت .. المياه من فوقنا من تحتنا .. أخرجي بجلدك ..

- إذن الذهب والمصوغات .. لابد من أخذها .. أحمل الطفلة ناهد معك .. وسأذهب لإحضار الذهب .. دخلت المرأة البائسة إلى الحجرة .. تبحث عن الذهب في جنون ..

- أخرجي أيتها المجنونة .. - ها هو قد وجدته .. إن المياه قد .. .. ..

ولم تكمل عبارتها .. تكوّمت عليها الحجرة .. وضاعت استغاثتها تحت الأنقاض .. بصق الزوج .. وحمل طفلته على كتفه .. ومضى ..

استمر قصف الرعود .. واستمر خروج الناس من مساكنهم .. لتحتلها المياه وتحيلها إلى عدم .. يهيم الناس حيارى في الماء .. وأنا منهم وبينهم ومعهم .. حائر .. كل همي أن أجد ملجأً .. أقضي فيه ما تبقى من الليل .. ولكن لا شيء يبدو على وجه الماء ..

سبحتُ .. نعم سبحتُ .. أنا الذي لا أعرف شيئاً في فن السباحة .. لكن الطريق طويل .. يبدو وكأنه بلا نهاية .. ثم أخذت أسير .. وأقاوم اندفاع المياه .. لكن الدرب وعر .. شائك .. نبتت فيه أشجار الصنوبر بسرعة .. وتمددت أمام بصري كشيء غامض يصعب فهمه .. كحيوان خرافي .. من حيوانات ما قبل التاريخ .. وثمة ظلام أسود .. ثقيل .. يخيم على ما حولي .. حتى خُيّل إليّ أني لو مددتُ أصبعي فسألمسه ..

سمعت صوتاً .. بل همساً .. كأنه أنات مريض .. أو حشرجة محتضر .. يأتيني من وراء أفق وعيي .. من وراء حدود النفس .. فجزعت ..

وبلا مقدمات .. هدأ كل شيء فجأة مثلما بدأ فجأة .. توقفت الرعود .. وكفت السماء عن البكاء .. واستعادت صفوها .. كأنها قد فرغت من أداء مهمتها .. وساد صمت عجيب .. كأنّ شيئاً لم يكن .. صمتٌ لم يعكره إلاّ أزيز جنادب .. ونقيق ضفادع .. ترددت أصداؤها بين جنبات المدينة التعسة ..

ذكرت تلك المرأة التي دفنت تحت الأنقاض .. ذكرتها وطافت صورتها بمخيلتي .. ولا أدري ما الذي أثار ذكراها في نفسي؟ .. دمعت عيناي في الظلام .. وأحسست بعبراتي تنحدر على خدي ..

(أسوأ ما في الموت .. أن تدرك أن من فقدته لن تراه أبداً بعد موته) ..

سمعت صوتاً آخر .. هاتف يناديني من بعيد لأن أقف .. بطؤت خطاي من تلقاء نفسها .. بخوف غريزي .. تلفتُّ حولي .. فلم أرَ أحداً .. فكل الأشياء حولي تسبح في ديمومة العدم المطلق ..

في ذلك المكان الذي لا أعرف له موقعاً جغرافياً محدداً تنقّلت خطاي .. وفي ذلك الزمان الذي لا أعرف موقعه بين حركة الأفلاك ترددت أنفاسي .. وهناك أيضاً .. لفحت وجهي نسمة باردة .. مختلطة برائحة البحر .. وداعبت رائحة السمك مراكز الشم في عقلي ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير