تقول: (أبنيت الدارَ التي كنت على أن تبنيها؟) ... وتقول: أأنت بنيتَ هذه الدار؟)، فتبدأ في ذلك كله بالاسم، وذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان. كيف؟ وقد أشرت إلى الدار مبنية، وإنما شككت في الفاعل من هو؟ فهذا من الفرق لا يدفعه دافع، ولا يشك فيه شاك، ولا يخفى فساد أحدهما من موضع الآخر" ([37]).
5 ـ التقرير:
ويشير إلى خروج الاستفهام عن أصل وضعه إلى غرض التقرير بقوله: "ويكون استخباراً، والمعنى تقرير، نحو قوله جل ثناؤه:) أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ([الأعراف: 7/ 172] " ([38]).
وابن فارس بهذا فهم المعنى المجازي للاستفهام، بأنه ليس استفهاماً محضاً؛ لأن الآية الكريمة لم تستفهم: أربهم هو أم لا، والله سبحانه وتعالى لا يريد جواباً؛ بل يريد أن يقر أمراً ثبت العلم به، وبذلك ينتزع اعترافاً منهم.
و (التقرير) ـ كما يعرفه العلماء ـ هو "حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده" ([39]) نفياً أو إيجاباً؛ لأنه أوقع في النفس، وأدل على الإلزام، وهو "كالإنكار، يُشترط أن يلي المنكر الهمزةُ" ([40]) وقد استقر لديهم أنه هو ربهم، لكن مثل هذا الاستفهام يقال في تقرير من يُظن به الإنكار، أو ينزل منزلة ذلك.
ومما يُذكر لابن فارس هنا أنه أحسن التدليل على هذا الغرض بالاستشهاد عليه بهذا الشاهد، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه كان يعي مفهوم (التقرير)؛ لأن ثمة قاعدة بلاغية تقول إن الهمزة ـ في الغالب ـ أو إحدى أدوات الاستفهام إذا ما دخلت على نفي، فإنه لا يراد بها معنى النفي؛ بل يراد تقرير ما بعده، وهنا الهمزة دخلت على النفي بقوله: (لست)، فأصبحت (ألست)، وهذا كله يؤكد مدى فهم ابن فارس لدقائق هذا الأسلوب وتفاصيله.
6 ـ التسوية:
ويُعبر عن غرض التسوية بقوله: "ويكون استخباراً، والمعنى تسويةٌ، نحو:) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ([البقرة: 2/ 6] " ([41]).
وهذا يعني أن ابن فارس تحسس بذوقه الفني أن وراء الاستفهام يكمن غرضٌ آخر هو التسوية، وحقيقة التسوية هنا هي أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إليهم.
واستفهام (التسوية) ـ كما يعبر عنه العلماء ـ: هو الاستفهام الداخل على جملة يصح حلول المصدر محلها ([42]).
وما ذهب إليه ابن فارس هنا يؤكد دقة وعيه لمفهوم هذا الأسلوب، كما يشير إلى مدى تجاوزه من سبقه من العلماء. فأبو عبيدة ـ مثلاً ـ نقل ضمن ما نقل هذا الشاهد، لكنه رأى فيه استفهاماً للإخبار ([43]). كما أن عالماً مثل الفراء لم يعرض في أثناء تفسيره لهذا النوع من الاستفهام المجازي، وأغفل الحديث عنه كذلك ابن قتيبة ([44])، في القسم الذي أفرده لدراسة الاستفهام.
ومما يؤكد صحة ما ذهب إليه ابن فارس أن الآراء من بعده جاءت لتفيد ما أفاده من أن الغرض البلاغي لهذا الاستفهام هو التسوية ([45]).
لكن، مما يجدر الإشارة إليه هنا أن ابن فارس وجه اهتمامه لرصد المعنى البلاغي لهذا النوع من الاستفهام، دون أن يبذل أي جهد في الإشارة إلى مسائل التسوية ودقائقها، فعلى حين نجد أن عالماً في زمن مبكر كسيبويه ([46])، وغيره ممن جاء بعده من العلماء ([47]) قد تناولوا هذه المسائل، فأشاروا إلى دخول (أم) المعادلة لهمزة التسوية؛ لأنها تعادلها في هذا المعنى، وهو استواء علم السائل في طرفي التسوية، لا يدري أيهما هو، واشترطوا في (أم) هذه أن تُسبق بما يدل على التسوية لفظاً ومعنى، مثل: سواء، ويستوي، وسيان، أو معنى فحسب، مثل: ليت شعري، ولا أدري، وما أبالي ... وما أشبه ذلك.
ولا يعني هذا أن نقلل من جهد ابن فارس، أو من قيمة ما ذهب إليه، فقد لاحظنا ـ ومنذ مطلع مبحثه في الاستفهام ـ أنه وجه اهتمامه لدراسة ما وراء الاستفهام من أغراض وأسرار بلاغية، دون أن يتجاوز ذلك إلا في أمور محددة كما سنشير إليها لاحقاً ([48]).
7 ـ الاسترشاد:
ويشير إلى غرض الاسترشاد بقوله: "ويكون استخباراً، والمعنى استرشاد، نحو:) أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ([البقرة: 2/ 30] " ([49]).
¥