وابن فارس ـ هنا ـ لا يوضح معنى الاسترشاد، ولا يشرح الآية بما يُفهم منه هذا المعنى، ولعله كان يقصد به الاستعلام الذي يكتنفه شيء من طلب الرشد والهداية، وهذا ما يشير إليه المعنى اللغوي، لأنه يقال في اللغة: "استرشده: طلب منه الرشد، ويقال: استَرْشَد فلان لأمره إذا اهتدى له وفي الحديث: وإرشادُ الضال: أي هدايته الطريق وتعريفه" ([50]).
كما أن عالماً مثل الزركشي حاول فيما بعد أن يفرق بين الاستفهام والاسترشاد، فرأى فيه نوعاً من الأدب في مخاطبة الله عز وجل، يقول: "الظاهر أنهم استفهموا مسترشدين، وإنما فرّق بين العبارتين أدباً" ([51]).
ويشرح ابن عطية هذا المعنى أكثر عندما ينقل رأي من قال بالاسترشاد، يقول: "وقال آخرون كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقاً يفسدون ويسفكون الدماء، فلما قال لهم بعد ذلك [إني جاعل] قالوا: [أتجعل فيها] على جهة الاسترشاد والاستعلام: هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره؟ " ([52]). وعلى هذا المعنى يكون رأي ابن فارس صائباً في توجيه الاستفهام وجهة الاسترشاد.
وهذه الآية ذكرها كثير من العلماء، لكن آراءهم جاءت متباينة، فذهب أبو عبيدة إلى أنها للتقرير ([53])، وأفادت عند الزمخشري وأبي حيان معنى التعجب ([54])، ونقل أبو حيان وابن عطية آراء كثيرة كان الغرض فيها الاستعظام والإكبار، أو التقرير، أو الاستفهام المحض ([55]).
8 ـ الإنكار:
ويعبر عن معنى الإنكار بقوله: "ويكون استخباراً، والمعنى إنكار، نحو:) أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ([الأعراف: 7/ 28] ومنه قول القائل:
وتقول عَزَّةُ: قد مَلَلْتَ فقُلْ لها:
أيَمَلُّ شَيءٌ نفسَه فَأمَلَّهَا؟ ([56])
فابن فارس أدرك أن صيغة الاستفهام في الشاهدين خرجت عن أصل حدود الدلالة الوضعية لإفادة الإنكار، لأن "الإنكار: الجحود، وهو الاستفهام عما يُنْكِرهُ، والاسْتِنْكارُ: استفهامك أمراً تُنْكِرهُ" ([57])، ومعنى الإنكار هنا أن الله سبحانه وتعالى يستهجن أو ينكر على الكافرين فعلهم في الكذب عليه، فينسبون إليه القبيح دون علم أو نظر صحيح، كما أن الشاعر ينكر على عزة قولها بأن الملل قد تسرب إليه، فيخاطبها منكراً ما تدعيه عليه.
وما ذهب إليه ابن فارس في الآية وافقه عليه الزمخشري ([58]) وكذلك فعل أبو حيان الذي علل سر الإنكار بأنه "لإضافتهم القبيح إليه، وشهادة على أن مبنى أمرهم على الجهل المفرط" ([59]).
والعلماء ـ مع كل هذا ـ لا يبينون الأسرار والفوائد البلاغية من الاستفهام الدال على الإنكار؟ فعبد القاهر الجرجاني بنظره الثاقب، وحسه الجمالي، وبصيرته الواعية يفتح الباب واسعاً للخوض فيما وراء هذه الأغراض، ليؤكد أنه يأتي "لتنبيه السامع، حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا الجواب، إما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه،… وإما لأنه همَّ بأن يفعل ما لا يُستصوب فعلُه، فإذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ، وإما لأنه جوّز وجود أمر لا يوجد مثله" ([60]).
والإنكار عرض له العلماء عند دراستهم لأسلوب الاستفهام وتوسعوا بدراسة أشكاله وأقسامه، وذكروا أنه يرد إما للتوبيخ بمعنى ما كان ينبغي، أو بمعنى لا ينبغي أن يكون، وإما للتكذيب بمعنى لم يكن ([61]). وهناك من قسمه إلى إنكار إبطالي وحقيقي ([62])، واشترطوا له أن يلي المُنكر الهمزة ([63]).
وهكذا نرى أن ابن فارس نجح في استخلاص المعنى البلاغي لصيغة الاستفهام في هذا الشاهد، ففتح الباب واسعاً لمن جاء بعده ليخوض في أقسام الإنكار وفروعه.
9 + 10 ـ العرض والتحضيض:
ويشير إلى هذين الغرضين بقوله: "ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى عرض، كقولك: ألا تنزل؟ ويكون استخباراً، والمعنى تحضيض نحو قولك: هلاَّ خيرا من ذلك؟ و:
بني ضَوْطَرَى لولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا ([64])
وابن فارس هنا لا يفرق بين المصطلحين: العرض والتحضيض، فالأول هو "الطلب برفق، والثاني بِشق" ([65]).
¥