تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يحسن بنا في البداية أن نطلع على أهم المعالم الرئيسية في مسرحية الحكيم، فقد تحول التمثال الحجري الذي أبدعه بغماليون، بناء على دعائه وابتهالاته للآلهة "فينوس" (آلهة الحب والخصب عند الرومان) إلى امرأة تدعى (غالاتيا) فقد عشق الفنان تمثاله إلى درجة يتمنى معها لو تنبض الحياة فيه، كي يتمكن من الارتباط الأبدي به عن طريق الزواج، وبذلك يعيش بغماليون سعادة تحقق الأحلام، لكن دوام الحال من المحال فقد سئمت غالاتيا حياتها الرتيبة وباتت تنطلق مع (نرسيس) عبر الحقول في لهو بريء، لكن بغماليون يظن أنها غدرت به، فيغضب هنا تتدخل الآلهة وتصلح بينهما بعد أن تؤكد براءتها، يكتشف بعد مرور فترة من الزمن أن زوجته (غالاتيا) تعيش حياة عادية وتنأى عن المثال الرائع للجمال التي كانت عليه حين نحتها (تحمل المكنسة وتمسح الغبار في البيت) تأكد أن تمثاله فارق عالم الجمال والمثل الأعلى للخلود، فقد أصبح معرضا لقوانين الحياة والزمن الذي يحكم بتحول الإنسان مع مروره من حال إلى حال: من الشباب إلى الهرم ومن الحياة إلى الموت!! عندئذ يدرك روعة الفن بالقياس إلى روعة الحياة،إذ يخلد الفن ولا يفنى كما يفنى البشر، لذلك نجد بغماليون يبتهل للآلهة فينوس أن تعيد إليه فنه الخالد، فهاهو ذا يقول متحديا "دعيني أقل لهم ما أريد دعيني أصارح هؤلاء الآلهة بالحقيقة، لقد صنعت أنا الجمال فأهانوه هم بهذا الحمق الذي نفخوه فيه" (9) وقد وجدنا الآلهة تستجيب لتحديه وتستلّ الحياة من تمثاله ليعود إلى جموده، عندئذ يفتقد بغماليون روعة الحياة ويتمنى لو تعود زوجته إليه، لكن الآلهة ترفض الاستجابة إليه، فهي لم تنسَ تحديه لها في عجزها عن خلق فن خالد كخلق الفنان، لهذا يعاني صراعا حادا ينتهي به إلى أن يحطم رأس تمثاله ويموت حسرة عليه.

تجسد لنا هذه المسرحية طموح الإنسان للمثل الأعلى في كل ما يشمل الحياة والفن، كما تجسد غرور الفنان وأنانيته، كذلك نلمس فيها عشق الفنان لإبداعه ورغبته في بث الكمال فيه بأن ينبض بالحياة، إنه يرى في إبداعه ذاته لذلك يرغب في التوحد معه.

بدت لنا هذه المسرحية وفية لأجواء الأسطورة اليونانية، متأثرة بتفاصيلها الكثيرة، وقد لحظنا نقاط اللقاء بالأسطورة أكثر من نقاط الاختلاف، فنحن أمام شخصية ذات ملامح واحدة تقريبا (بغماليون) الفنان، يعشق فنه إلى درجة الرغبة في التوحد به وبث الحياة فيه، وستحقق هذه الرغبة الآلهة في كل من المسرحية والأسطورة، فكان الزواج من التمثال (غالاتيا) الذي بثت فيه الحياة، نلاحظ وفاءً للأسطورة يشمل حتى أسماء الشخصيتين الرئيستين.

عشنا في هذه المسرحية جوا أسطوريا، إذ وجدنا شخصيات رئيسية خارقة (الآلهة فينوس آلهة الحب والخصب، وأبولون راعي الفن) فوجدناها تقوم بمعجزات مدهشة، يلاحظ أن توفيق الحكيم قدّم في مسرحيته شخصيات ثانوية أسطورية، مستمدة من الأسطورة اليونانية (نرسيس، إيسمين) كما استعان بتفاصيل من سمات المسرح اليوناني (الجوقة)

لو تأملنا نقاط الاختلاف بين الأسطورة والمسرحية للاحظنا دور التخييل الفني في إسباغ الحياة على الأسطورة، فالكاتب يطلق خياله ليتابع سيرة بغماليون بعد زواجه، فلا يكتفي بما تقوله الأسطورة (بأن السعادة رفرفت على حياة بغماليون وغالاتيا بعد أن أنجبا طفلا يدعى بافوس) بل يتابع، عبر خياله تفاصيل للحياة اليومية التي من شأنها أن توتر العلاقة بين الرجل والمرأة، لذلك رأينا بغماليون، هنا، رجلا عاديا لا ملكا، كما رأينا غالاتيا امرأة عادية (تهرب مع نرسيس للتنزه وتقوم بأعمال منزلية) لذلك لا نستطيع أن نقول إنه كان وفيا بشكل كامل للأسطورة، فقد وجدناه يغير في بعض الأسماء الأسطورية، فتتحول إفروديت اليونانية التي وجدناها في الأسطورة إلى فينوس الرومانية، كذلك لم يتقيد بالشخصيات التي وجدناها في الأسطورة وإنما وجدناه يضيف شخصيات أخرى مثل (نرسيس، وإيمسين)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير